بكيت فى حياتى 4 مرات، وأمس فجراً كانت الخامسة.. فى المرات الأربع بكيت مرتين حزناً، ومرتين فرحاً.. دموع الحزن غلبت عينى حين ماتت أمى ثم أبى.. ودموع الفرح سبقت مشاعرى عندما «طلعت الأول على مدينتى فى الثانوية العامة».. وعندما شاهدت وسمعت اللواء عمر سليمان يعلن تخلى مبارك عن السلطة.. فقد عشت وبداخلى قناعة تامة بأننى لن أشهد هذه اللحظة فى حياتى!
بعد موت أبى ظننت أننى لن أبكى حزناً مرة أخرى.. غير أن دموعى فجر أمس انهمرت بحرقة على الأعز والأغلى من أمى وأبى.. بكيت جسداً كريماً يتمزق على أيدى أبنائه.. وطناً وضعناه عن عمد على «جهاز التنفس الصناعى».. أدخلناه الرعاية المركزة، ونتسابق الآن لتجهيز مراسم الدفن بدم بارد.. ولا عزاء لـ90 مليون مصرى!
بكيت مصر.. ونهضت فأرسلت عبارات موجزة على هواتف قيادات بالمجلس العسكرى والإخوان «احفظوا البلد من مستنقع عنف وبحر دماء.. ضعوا المصلحة العامة فوق الصراع على السلطة والكراسى والمغانم.. مصر ليست غزوة ولا معركة ولا أنثى بلا صاحب يتسابق المغامرون على اغتصابها».. قلت كلمتى والله خير شاهد.. ومع ذلك لم يسترِح ضميرى، فقررت أن أروى لكم هذه القصة.. لعلها تفيد فى بيان الفارق بيننا وبين من سبقونا!
كنت فى التاسعة من عمرى حين عبر جيشنا العظيم قناة السويس.. أخرجونا سريعاً من المدرسة دون أن نفهم ماذا يحدث.. كانت فرصة عظيمة كى نلعب فى الشارع.. عرفنا سريعاً أن الحرب دائرة.. كانت الطائرات تشق السماء فوقنا على ارتفاعات منخفضة.. مدينتى بالشرقية قريبة من جبهة القتال.. وكانت لعبة جميلة لى ولأقرانى.. أمسكنا «بنادقنا» من العصى، وأطلقنا قذائف وهمية لاصطياد الطائرات.. وبينما كنا منهمكين فى المعركة.. وجدت يداً عنيفة تلطشنى على رأسى: «بتعمل إيه يا ولد؟ أنت حمار؟ دى طيارات مصر».. قالها أبى، وسحبنى من قفاى، وألقى بى فى البيت.. ومع ذلك لم أفهم شيئاً!
«فيها إيه لما أضرب الطيارات؟!».. سألتُ أمى تجنباً لحدة أبى.. كانت تسمع الراديو باهتمام شديد، ودموعها تبللنى وأنا «مدفوس» فى حضنها.. قالت بصوت متحشرج: «ربنا يستر.. لو اتهزمنا المرة دى البلد هتضيع».. سألتها: «هتضيع ليه؟ ما احنا كويسين يا ماما».. فردت: «ما احنا لو اتهزمنا مش هنبقى كويسين خالص.. اليهود هيبقوا فى بيوتنا.. والدم هيملا الشوارع»!
كرهت إسرائيل لأنها تريد أن «تضيع مصر.. والدم يملأ الشوارع».. وظننت من يومها أن إسرائيل وحدها هى التى تسعى دائماً لأن «تضيع مصر».. غير أننى بكيت فجر أمس لأن أناساً تجرى فى عروقهم دماء مصرية خالصة يبذلون الجهد والمال كى «تضيع مصر».. أناساً يعيشون بيننا.. فإذا كنا نحارب إسرائيل على حدود وجيوش نعرفها.. فكيف نحارب «مرضاً» مصرياً يجرى فى أعماقنا؟ كيف نعرف العدو من الصديق، وكلاهما يسير بيننا فى الشوارع؟ كيف نحمى وطناً من بحور دماء، بينما انقسم أبناؤه على المغانم والسلطة، واتفقوا على حشد الجيوش والسلاح لقتل أبنائنا فى البيوت والمدارس؟!
الخوف يسكن كل القلوب.. الأطفال يسمعون فى حوارات الآباء سؤالاً واحداً، لكنه مخيف: «البلد هتولع إمتى»؟! والمتصارعون على السلطة والمليارات تحميهم كتائب من الحراسات المسلحة.. لن يموتوا حتى لو قتلوا الشعب كله.. فكرت أن أذهب لمبارك وأسأله: «ألهذا الحد الكرسى عزيز وغالٍ حتى يراق على جوانبه الدم؟».. فكرت أن أسأل «مرسى وشفيق ومَن وراء كليهما»: ما أخبار جيوشكما وسلاحكما؟! كم شهيداً يريد كل منكما أن يُذبحوا تحت قدميه الكريمتين؟!
أما الكلمة الأخطر لـ«مرسى وشفيق» وحملتيهما: «ممكن تسكتوا شوية؟! إحنا كلنا عارفين إيه اللى حصل فى اللجان والتصويت.. ولأنها مرحلة انتقالية بايظة من أولها.. هنعديها وهنقول للى هيكسب: يا ريس! مع إنه عارف إن احنا عارفين انه ريس بالإرادة الشعبية الحرة ولا...!»..