يدور فى مصر حوار مجتمعى متصل حول التعليم مضموناً وتطويراً وتوظيفاً.. وعلى الرغم من عشرات المؤتمرات والتوصيات التى صدرت طوال السنوات الخمس الماضية لتطوير التعليم من عشرات الجهات إلا أن المتحاورين هذه الأيام لم يهتموا كثيراً باقتراحات تحديث مضمون المناهج، وأساليب التدريس وأدواته أو بربط التعليم باحتياجات سوق العمل، ووجدنا غالبية المتحاورين يسيرون فى اتجاه إلغاء مجانية التعليم فى مستوى الثانوى والجامعى بالمخالفة للمادة 19 فى الدستور التى تنص على مجانية التعليم، ومسئولية الدولة والمجتمع عن توفير احتياجاته.
وهو أمر لو تعلمون خطير، وينم عن عدم دراية بما يحدث فى كل دول العالم، وبخاصة المتقدمة التى تزيد فيها ميزانيات دعم البحث العلمى والتعليم كل عام لإدراكهم بحقيقة أن التعليم يحل غالبية المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويصنع التقدم الحضارى، ويحمى النشء من مخاطر الجهل وغياب التربية والتوعية البنائية للأخلاق والسلوك القويم، التى توفرها بدرجة كبيرة مؤسسات التعليم عندنا فى كل مراحله حتى مع السلبيات المرصودة حالياً.
والمعنى الذى تحرص عليه كل المجتمعات أن يكون انتظام الأطفال، ثم الصبية، ثم الشباب من الجنسين فى مؤسسات تعليمية تربوية متاحاً ومجانياً بما يؤدى إلى الانضباط السلوكى والبناء العقلى والعلمى والتربية للشخصية، وتقديم نموذج فى أطر واضحة للطموح والنجاح والرقى الاجتماعى لدى الأجيال الجديدة فى إطار انتماء للدولة والمجتمع والحرص على أبنائه وإعدادهم ليكونوا زاداً لقوة وتماسك وتطور المجتمع.. وقد جربت مجتمعات قبلنا حالة قصر التعليم على من يملك تكلفته، فخرجت أجيالاً من الجهلة والمشتتين سلوكياً، ونمت حالات الانحراف والإدمان والبلطجة والعنف والغضب ضد المجتمع بين قطاعات واسعة ممن لم يتمكنوا من التعليم.. وتجربة مصر فى تعميم مجانية التعليم قبل ثورة 1952 دليل واضح للجميع.
وإذا كانت تكلفة التعليم مرتفعة على الدولة وناتج العملية التعليمية به سلبيات معروفة، محورها عدم ارتباط التعليم باحتياجات المجتمع وضعف المستوى العلمى للخريجين فى كل المراحل التعليمية، فإن إلغاء مجانية التعليم ما بعد الأساسى ليس حلاً.. كما أن الاقتراحات التى نسمعها عن السماح بشركات خاصة ببناء مدارس وفصول وفرض مصروفات على من يتعلم فيها من التلاميذ لمدة 30 سنة، ثم تؤول المبانى التعليمية إلى وزارة التعليم لحل مشكلة التكدس فى الفصول الدراسية، التى تصل أعداد التلاميذ فيها إلى 100 تلميذ فى الفصل الواحد بما يضر بتعليمهم وصحتهم واستمرارهم فى الدراسة، فإنها أيضاً ليست حلولاً مقبولة اجتماعياً.
وأعتقد أن هذه الاقتراحات التى تهدر الحق فى التعليم وتقصره على من يملك المال لا تصلح إنسانياً، وضد حقوق الإنسان الأساسية.. وسوف تمثل خطراً على دور المدرسة والجامعة مستقبلاً وتغير نمط السلوك اليومى وسلم الطموحات والمسارات الاجتماعية الآمنة والطبيعية للأجيال المقبلة، كما سيفقد غالبية أولياء أمور الطلاب وسيلة أساسية لتنمية قدرات وبناء مستقبل أولادهم.. ودخول مفاهيم «البزنس» فى التعليم بلا رؤية ومنظومة اجتماعية سيضر بكل الأطراف.
ونرى مع قطاع كبير من خبراء التعليم فى مصر، ولهم خبرات دولية متنوعة أن يتحول التزام الدولة الدستورى بمجانية التعليم إلى نهضة حقيقية بمناهج وآليات متطورة وعقليات تعليمية وطنية مبدعة توظف الإمكانيات القليلة المتاحة، لتعطى أفضل النتائج مع التخلص من الموروث التقليدى فى التعامل مع الطالب والمدرسة والمعلم والشهادة الذى أثبت فشله، كما يجب إشراك المواطنين فى المنظومة الجديدة لتتحقق المشاركة المجتمعية بالتمويل والدعم والمتابعة وأداء أدوار تكاملية فى العملية التعليمية عبر تعاونيات التعليم.
والحقيقة التى لا يعرفها الكثيرون أن كل المدارس والجامعات الخاصة التى تعمل فى مصر وانتشرت بكثافة مع مطلع التسعينات، وحتى الآن كلها جمعيات تعاونية فى شكلها القانونى ونظامها المؤسسى، ولكنها للأسف لم تؤدِ الدور التعاونى الخاص بالنهوض بالمجتمع وتحديث الأداء التعليمى، واهتمت أكثر بجمع الأموال والتنافس لاجتذاب الطلاب من المدارس والجامعات الحكومية.. ولو طورنا أداء التعاونيات التى تمتلك المدارس والجامعات الخاصة وأشركناها بأدوار متنوعة فى التعليم العام المجانى ستقوم بدورها الاجتماعى والتعليمى كجزء مكمل للنهضة التعليمية، وشريك فى تحقيق أهداف التعليم العام، كما أن النمط التعاونى فى الملكية والإدارة فى إقامة مشروعات تعليمية ومدارس وجامعات جديدة لن يحمّل المواطنين والمجتمع أعباء مادية ومشاكل اجتماعية خطيرة.. والله غالب.