ندخل الدنيا يوم مولدنا بورقة تحمل اسماً أُطلق علينا مع اسمَى الأب والأم وتاريخ ومكان الميلاد (شهادة الميلاد)، ونخرج منها أيضاً بورقة تحدد التاريخ والوقت والأسماء نفسها والحالة الاجتماعية (شهادة الوفاة).. وبين هذه وتلك تظل الأوراق هى محور الحياة؛ فما من خطوة نخطوها إلا ولها ورقة. ففى الأعوام الأولى تظل شهادة الميلاد هى المحور، تسجل ما حصلنا عليه من تطعيمات صحية وما أُصبنا به من أمراض كأنها شاهد إثبات على ما نعانى منه فى احتكاكنا بالحياة.. وسرعان ما تجرى الأيام لتذهب هذه الشهادة إلى ملفات المدرسة وتتحول إلى جواز سفر إلى الحياة العلمية والعملية بعد سنوات وسنوات.. ولنحمل بعدها قسيمة الزواج مذيلة بإمضاء الشهود، وقد نستبدلها -لا سمح الله- بقسيمة الطلاق.
وللأوراق قصة طويلة فهى أنواع وأحجام وبعضها يحمل رموزاً تعطيه مصداقية وقوة ونفوذاً فهناك أوراق ملونة حالمة تحمل رموز الحب والسعادة يتبادلها الأحبة والعشاق وهناك أوراق للكتابة تختلف من لغة إلى أخرى بل تراعى أعمار مستخدميها إن كانوا أطفالاً أو كباراً، وتوجد أيضاً أوراق للمهن فالمهندس تختلف أوراقه عن تلك التى يستخدمها الموسيقار ليكتب النوتة الموسيقية والأخرى التى يرسم عليها الفنان لوحاته الفنية... ونأتى للأوراق ذات النفوذ فنجد أوراقاً تحمل أعلى اليمين النسر علامة انتمائها للجهات الرسمية المصرية كوزارة الخارجية أو مؤسسة الرئاسة وغيرها كما توجد أوراق يشغلها رسوم مطبوعة بخلاف ما يكتب عليها منعاً للتزوير، والطريف أن تجد بعض الجهات تضع رسماً مميزاً على ظهر الورقة لنفس الغرض. ونأتى للأوراق النقدية صاحبة أقوى نفوذ فى العالم حيث ظهرت العملة الورقية (البانكوت)، وهو اسمها بالإنجليزية والذى حُرف على لسان العامة المصريين لينطقوه «البنكنوت»، ظهرت العملة الورقية بسبب المشاكل المتعلقة بتكلفة تخزين ونقل (النقود السلعية)التى كان يتم صنعها من معدن الذهب أو الفضة والتى كانت تستخدم لأغراض التبادل السلعى ومن هنا تم ابتكار العملة الورقية لتكون بمثابة وعد من الجهة المصدرة لها بتحويلها إلى نقود سلعية متى أراد حاملها ذلك وبعد ذلك تطورت الأوراق النقدية فأصبحت قيمتها ليست نابعة من القدرة على تحويلها إلى نقود سلعية إنما أصبحت تستمد قيمتها من ضمان الحكومات المصدرة لها وبهذا أصبحت تدعى «النقود القانونية».
ونأتى للأوراق الطبيعية التى منحها الخالق لنا للاستفادة منها وأجملها على الإطلاق أوراق الورد التى تَغنّى برقتها وجمال رائحتها الشعراء وغنت لها المطربة وردة أجمل أغانيها (أوراق الورد) فقالت إنها تتكلم فشرحت معناها واستخدامها بجملة واحدة لأنها بالفعل من بين لغات العشاق، كما أنه من بين الموروثات الشعبية لجميع الشعوب دون استثناء إلقاؤها على العروسين يوم الزفاف ويصنع منها فى مصر أشهر شراب تقليدى لحفلات الزفاف أيضاً. ولها استخدام آخر فى إعطاء المنازل رائحة جميلة بعد تجفيفها.
وإذا تحدثنا عن الأوراق الطبيعية الراقية المميزة التى تحل ضيفاً عزيزاً على موائد الطعام سنجد أوراق العنب الشهية والتى تبدع فى إعدادها السيدات كل حسب موروثها من الطعام فالمصرية تعده بطريقة مختلفة عن السورية وعن اللبنانية والخليجية بينما تعد المرأة الصينية طعام عيد الربيع من أوراق شجرة الموز وتضيف المرأة العربية أوراق نبات الغار لمختلف الأطعمة، وتستخدم مصانع الأدوية ورق أشجار الجوافة وأشجار الليمون فى صناعة الدواء وهو ما كان الأجداد يستخدمونه بالفطرة للعلاج عن طريق غليه فى الماء.
وما دمنا نتحدث عن الأوراق فلزاماً علينا أن نتحدث عن صناعتها لنقول إن أوراق البردى المصرية كانت السبب فى البحث عن بديل لها بعد أن منعها ملوك مصر عن (أومان الثانى) ملك برجامون فى غرب آسيا فبدأت صناعة الرّق من جلود الحيوانات بعد تنظيفها فى ماء الجير وطلائها بغراء النشاء لتصبح صالحة للكتابة، كما استعمل الصينيون القدماء الحرير الطبيعى للكتابة ثم استبدلوه لارتفاع سعره بورق مصنوع من نفايات الحرير وهو ما عُرف بالورق الحريرى واستمرت التكلفة العالية مما دفعهم للبحث عن فكرة الأوراق المرنة الملساء من الألياف النباتية وكان ذلك على يد (تسانى لون)، وزير الفلاحة الصينى الذى أمرهم باستخدام نبات البوص والبامبو ونفايات القطن وشباك الصيد القديمة، ثم انتقلت بعد ذلك صناعة الورق للعرب عندما وقع صناع صينيون فى الأسر بسقوط مدينة (سمرقند) فى يد العرب عام ٧٠٥م وكانت أول ورشة لصناعة الورق فى بغداد أثناء حكم هارون بن محمد الملقب بالرشيد أثناء حكم العباسيين ثم انتقلت لدمشق وبعدها بلاد الشام ومنها إلى مصر وطرابلس ثم اليمن لتستقر فى المغرب (فارس).
وفى القرن الـ١٢ دخلت صناعة الورق أوروبا بعد أن غزا العرب إسبانيا عام ١١٥٠ ومنها انتقلت عبر البحر المتوسط إلى أوروبا ومن بلاد الشام دخلت إلى إيطاليا وبعدها باقى أوروبا وفى القرن الـ١٥ ظهرت فى هولندا وسويسرا وإنجلترا. أما المكسيك فقد عرفت تلك الصناعة عام ١٥٨٠ لتنتشر بعد ذلك فى باقى المستعمرات الإنجليزية وتدخل أمريكا فى القرن الـ١٦/١٧..
وبعد هذه الكلمات علّموا أولادكم أننا نحن العرب نقلنا للعالم أجمع صناعة الورق.