ويفيجينى بريماكوف هو فى اعتقادى واحد من أشهر الخبراء الروس وأكثرهم معرفة وعمقاً فى فهم مجريات الأمور فى منطقة الشرق الأوسط سواء أيام الاتحاد السوفيتى السابق أو فى روسيا اليوم، وقد بدأ حياته العملية كمراسل لصحيفة «برافدا» مشاركاً لمراسل آخر هو بيلاييف. وفى خلال إقامته كمراسل فى مصر امتلك علاقات وثيقة بالكثيرين من المفكرين والسياسيين والمثقفين والمناضلين المصريين، وكنت واحداً ممن استمتعوا بصداقته ولم أزل وإن كنت قد وجهت له انتقاداً شديداً فى كتابى «تأملات فى الناصرية» لكن النقد لم يكن بالأساس له شخصياً وإنما للخط السياسى البراجماتى الذى اتبعه الاتحاد السوفيتى حول التعامل الناصرى مع السجناء اليساريين والليبراليين، الذى تحول إلى تعذيب وحشى آن لكل ناصرى مخلص لناصريته أن ينتقده، لكننا ما لبثنا أن تصالحنا خاصة عندما قرأ كتابى «ماركسية المستقبل» وأبدى قدراً من الإعجاب به. وبريماكوف فيما أعتقد من أكثر الدارسين والمحيطين بدخائل وأسرار ومن ثم مستقبل الأوضاع فى الشرق الأوسط، وربما كان أكثرهم علاقة بكل قادة هذه المنطقة عبر عدة عقود. وقد صعد بريماكوف حتى أصبح مديراً لمعهد الاقتصاد والعلاقات الدولية بأكاديمية العلوم السوفيتية ثم رئيساً للاستخبارات الخارجية فوزيراً للخارجية الروسية ثم رئيساً للوزراء ورئيساً لمركز تحليل المواقف فى أكاديمية العلوم الروسية. والآن نلتقى مع بريماكوف فى مجلد ضخم (505 صفحات من القطع الكبير)، عنوانه «الكواليس السرية للشرق الأوسط.. النصف الثانى من القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين»، وقد ترجمه إلى العربية باقتدار الصديق د. نبيل رشوان وأصدره بالعربية المركز القومى للترجمة. وقد صدرت الطبعة الروسية الأولى لهذا الكتاب عام 2006، ثم ومع أحداث الربيع العربى أعاد بريماكوف النظر فى كتابه وفى بعض تقييماته لوقائع الماضى وكيف انعكست على حاضر الربيع العربى، كما أضاف إليه صفحات بالغة الأهمية قام فيها بتقييم نقدى للموقف الروسى من الربيع العربى، بالإضافة إلى تفسيرات ومعلومات بالغة الأهمية عن دور دول عديدة فى أوروبا وأمريكا وإيران وقطر وتركيا والسعودية والإمارات وحلف الناتو وتدخلات كل القوى فى المنطقة، خاصة العراق وسوريا وليبيا ومصر وتونس والسودان.
باختصار، هو كتاب بالغ الأهمية وبه من التحليلات والتقييمات والأسرار ما يجعل دراسته أمراً ملحاً لمن أراد أن يعرف ما يجرى حوله فنحن فى حضرة بريماكوف أمام تلال من الأسرار والتقييمات ثم التقييمات المضادة التى فكك بريماكوف شفرتها بمهارة. وبمهارة أيضاً قدم بريماكوف نفسه وكتابه عبر ألبوم من الصور وكأنه يقول فيه «إن ما كتبت هو ثمرة مقابلاتى مع هؤلاء».. أما هؤلاء فهم بالترتيب: عبدالناصر، خالد محيى الدين (الذى سماه الصاغ الأحمر)، عمرو موسى (أمين جامعة الدول العربية)، عمر سليمان (مدير المخابرات المصرية العامة) وكتب تحت الصورة «الجلسات معه أوضحت أموراً كثيرة»، رفسنجانى (رئيس إيران)، ولاياتى (وزير خارجية إيران) وتحت الصورة عبارة «الكثير فى لبنان كان يعتمد عليه»، ملا مصطفى البرزانى وتحت الصورة «قائد حركة التحرير الوطنى الكردية»، معمر القذافى وهو يقدم له خنجراً هدية، موسى كوسا (رئيس المخابرات الليبية) وتحت الصورة «رجل ليبيا القوى»، نايف حواتمة- الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ياسر عرفات وتحت الصورة «أحد اللقاءات الودية»، وصورة أخرى عندما زار عرفات فى غزة وتحتها لقاء حافل لوزير خارجية روسيا فى غزة، وصورة ثالثة وهو يهدى عرفات سيمافاور، الملك حسين ملك الأردن وتحت الصورة «كانت تربطنى به صداقة قوية» وصورة أخرى مع الأمير حسن- الأردن، ثم صورة مع صدام حسين (تحتها تعليق مثير للدهشة «كم هو غريب، كان يجيد الاستماع لكنه يفعل ما يريد)، وصورة مع طارق عزيز- العراق ومكتوب تحتها «محاولة وقف عملية الولايات المتحدة فى الكويت.. بعد منتصف الليل يوم 22 فبراير 1991 فى الكرملين وقد وصل دون تفويض»، وصورة مع وزير خارجية العربية السعودية الأمير سعود الفيصل- جدة- 1991، وصورة مع كوفى عنان السكرتير العام للأمم المتحدة وتحتها الذى سعى بإخلاص أن يهدئ الأوضاع فى الشرق الأوسط، وصورة مع الرئيس الأمريكى بيل كلينتون.. ثم صورة فى مقر المخابرات الخارجية الروسية تضم أربعة رؤساء للاستخبارات الروسية، وصورة للمؤتمر الدولى لمكافحة الإرهاب فى الشرق الأوسط فى شرم الشيخ تضم مبارك ويلتسين وعرفات، وصورة لمباحثات مع رئيس وزراء إسرائيل شارون، وصورة مع بوتين (تحتها تكليف من الرئيس بوتين بالسفر إلى بغداد). وهكذا قدم الرجل نفسه وكتابه بصورة ذكية. وقبل أن أنتقل إلى متن الكتاب أقتبس منه عبارة تحدد موقفه من الإسلام ومن الإرهاب: «البعض يؤكد أن تقسيم العالم على أساس حضارى/دينى قد حل محل تقسيمه السابق على أساس أيديولوجى. وهذا النوع من التقسيم مرتبط بظهور الإرهاب على المسرح الدولى الذى يزعمون أنه مرتبط بالإسلام كدين. إن الجهلاء وأصحاب القصد السيئ هم الذين يستطيعون تأكيد أن أحد أقدم الأديان والذى يؤمن به جزء كبير من سكان الأرض هو بذاته الذى يولد الإرهاب. والحقيقة أن كثيراً من المنظمات الإرهابية وأولها القاعدة هم فى حقيقة الأمر يرتدون ملابس إسلامية ويعلنون أنهم يسعون إلى إقامة دولة خلافة موحدة على أراضى كل الدول التى يقطنها سكان مسلمون، والنتيجة هى أن العدو الأساسى لهذا المسعى هو الدول الإسلامية نفسها، خاصة الدول ذات الأنظمة المعتدلة أو العلمانية، فالعمليات الإرهابية التى تشنها القاعدة ضد مصر وتركيا والسعودية تزيد من حيث العدد على العمليات الإرهابية ضد دول أوروبا» [صـ461]. ولعل إعلان أبوبكر البغداد خلافته هو أيضاً وتسمى باسم «الدولة الإسلامية»، واستخدام الأجهزة الإعلامية فى أوروبا وأمريكا وكذلك المؤسسات الرسمية والناتو والأمم المتحدة لتسمية «الدولة الإسلامية» تعزز هذه المخاوف التى أثارها بريماكوف. وبعد ذلك كله يمكننا أن نحاول اقتناص بعض من المعلومات المهمة عن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.