شهد الملف النووى الإيرانى فى الأشهر القليلة الماضية عدة جولات تفاوض، استضافتها إسطنبول وبغداد وموسكو على التوالى. ولم تحقق أى منها تقدماً حقيقياً باتجاه تسوية نهائية الملف. رغم أن النقاط الخلافية التى كانت سائدة قبل جولات التفاوض تلك، تم تجاوز بعضها أو أصبحت محل تفاوض ونقاش فى التفاصيل ولم تعد مستحيلة التناول كما كان الحال من قبل. وتكشفت هذه النقلة فى جولة إسطنبول على وجه الخصوص، حيث أسفرت عن تغير نسبى فى التوجهات العامة الحاكمة لمعالجة الدول الكبرى لهذا الملف الشائك، خاصة مسألة قبول مبدأ حق إيران فى امتلاك قدرات نووية سلمية. فقد كان الغرب يرتاب دائماً بشكل مسبق فى نوايا إيران من وراء استخدام هذا الحق. وأفضى هذا التحول المبدئى من جانب الغرب إلى تغير آخر إيجابى فى التفاصيل المترتبة على قبول حق امتلاك قدرات نووية سليمة. وهذا هو الجديد الحقيقى الذى قدمه الغرب لطهران، بقبول قيام طهران بعمليات إثراء اليورانيوم (الوصف العلمى السليم للتخصيب) بنسبة تتجاوز خمسة بالمائة وتصل إلى عشرين بالمائة. ورغم أن هذا الموقف الغربى الجديد مثل نقلة نوعية فى طريقة إدارة الملف النووى الإيرانى من جانب الدول الكبرى، فإنه يظل فى النهاية استجابة لأمر واقع فرضته طهران على الجميع، بممارستها عملية الإثراء فعلياً وتطويرها وتوسيع نطاقها أفقياً ورأسياً، فبينما كان الغرب يرفض مناقشة منح طهران حق إثراء اليورانيوم ذاتياً من حيث المبدأ، كانت إيران تطور قدراتها وتباشر العملية وتحقق فيها تقدماً رفع السقف التفاوضى المتاح أمامها ووضع الغرب أمام مأزق الاختيار بين قبول المبدأ والتفاوض حول التفاصيل، أو الاستمرار فى الرفض حتى تفاجئ إيران العالم بتطوير رءوس نووية أو على الأقل امتلاك قدرات نووية سلمية قابلة للتطوير إلى عسكرية لاحقاً. لكن فى المقابل تظل هناك تباينات أوسع تتعلق بمنهجية النظر إلى الملف النووى كجزء من سياق إقليمى متكامل، أو كقضية منفصلة تخضع للمعالجة بذاتها.
من هنا يمكن فهم التطور الإيجابى الذى طرأ على المسار التفاوضى للملف النووى الإيرانى فى الجولات الأخيرة. ويمكن أيضاً تفسير تأخر حسم الملف والتوصل إلى اتفاق، فى ضوء اعتبارين مهمين، أولهما رغبة كلا الطرفين (إيران والدول الكبرى) فى الحصول على أعلى قدر من تنازلات الطرف الآخر. والاعتبار الثانى هو المفاضلة بين الاتفاق على الملف النووى فقط، أو إدخاله ضمن صفقة شاملة متكاملة تضم الملفات والقضايا الأخرى العالقة بين الطرفين. وربما يكون هذا الاعتبار هو العائق الحقيقى أمام إنهاء أزمة النووى. حيث تمور المنطقة بأزمات ومشكلات تتعارض فيها مصالح ورؤى إيران والغرب. ما يدفع المراقب إلى القول بأن ما يؤخر لحظة «النضج النووى» ليس الخلافات النووية ذاتها وإنما تأخر التوافق حول الملفات الأخرى.