إذا كان السؤال: من المجرم.. هولاكو أم الخليفة العباسى؟.. فإن الإجابة هى: الاثنان معاً؛ هولاكو والخليفة.. كلاهما مجرم.. وكلاهما كان وراء إسقاط الإمبراطورية الإسلامية، وإسالة دماء الملايين من المسلمين.
(1)
كان الخليفة المستعصم بالله العباسى وجْهَ الهزيمة.. وعنوانَ الكارثة.. التى حلّت بالعالم الإسلامى فى القرن الثالث عشر الميلادى.
ينقل الشيخ الغزالى فى كتابه «تراثنا الفكرى» من مراجع عديدة.. ومصادر رصينة ليضعَنا أمام حقيقة ما حلّ بالمسلمين فى نهاية الخلافة العباسية.. وهو ما جعل سقوطها من الداخل سابقاً لسقوطها من الخارج.
كان احتلال هولاكو لبغداد أشبه بعنوان كتاب ريتشارد نيكسون الشهير «نصر بلا حرب». قتلَ هولاكو فى بغداد أكثرَ من (2) مليون نسمة.. لكن جزءاً كبيراً من هذه الدماء يتحملّها الخليفة الفاشل.. الذى راحَ يعبث فى الملذات واكتناز الأموال.. وإنفاقها على الحاشية والسفهاء.. بينما الجيش بلا رواتب ولا أسلحة.. ولا كرامة، والشعب بلا طعام ولا موارد.. ولا قيمة. لا شعب ولا جيش.. فقط خليفةٌ جاهلٌ وفاسدٌ يلهو مع مَن فى القصر.. بينما يتقدّم المغول لسحق الحضارة وإهانة الأمة.
(2)
ينقل الشيخ الغزالى عن «ابن كثير» قوله: «كان المستعصم بالله العباسى محباً للمال.. ومن ذلك أنّه استحلّ الوديعة.. التى استودعها إيّاه الناصر داود المعظم.. فاستُقْبِح هذا من مثل الخليفة».. «قطعَ الخليفة عن الجنود رواتبهم.. صرَفَ الجيوش، ومنع عنهم أرزاقهم، حتى كانوا يتسولون على أبواب المساجد والأسواق.. وأنشدَ فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله».
لم يقم الخليفة بإعطاء الجيش ولا العلماء ولا المفكرين.. بل جعل عطاءه حصرياً فى السفهاء والمضحكين.
إن أشهر مؤرخى العصر مثل «ابن القوطية» و«ابن الساعى».. كانت رواتبهم الشهرية نحو عشرة دنانير، وكان راتب الأستاذ فى المدرسة المستنصرية.. وهو منصب مرموق لا يحتله إلاّ كبار العلماء (12) ديناراً شهرياً.. لكن رجال الخليفة كانوا يتقاضون مئات الآلاف من الدنانير!
كان «علاء الدين الطبرسى» من رجال الخليفة.. يتقاضى دخلاً سنوياً من أملاكه نحو (300) ألف دينار، وكانت له دار فى بغداد لا مثيل لها.. وحين تزوج أعطاه الخليفة مائة ألف دينار، وبعد الزواج أعطاه منصباً يدرُّ عليه (200) ألف دينار سنوياً!
وكان «مجاهد الدويدار» من رجال الخليفة يتحصّل إيراداً سنوياً خمسمائة ألف دينار.. وفى ليلة زواجه أعطاه الخليفة ثلاثمائة ألف دينار، وفى صباح زواجه ثلاثمائة ألف دينار!
وكان «عبدالغنى بن فاخر» شيخ الفراشين فى قصر الخلافة عنده دار من عدة حجرات.. فى كل حجرةٍ جارية وخادمة وخادم.. ثمّ رتّب لكل جاريةٍ عملاً.. هذه لطعامه، وهذه لشرابه، وهذه لفراشه.. وهذه غسّالة وأخرى طباخة!
(3)
يقول «رشيد الدين الهمذانى» فى كتابه «جامع التواريخ»: «إن هولاكو بعد أن دخل قصر الخلافة فى بغداد أتى بالمستعصم بالله.. وطلب الأموال.. فذهب وعاد وأعطاه الصناديق وهو يرتعِد.. قال هولاكو: أسألك عن الدفائن.. وليست هذه. فاعترف الخليفة بوجود حوضٍ مملوءٍ من الذهب فى ساحة القصر.. حفروا الأرض حتى وجدوه. سبائك تزن الواحدة مائة مثقال.. فاستحق احتقار هولاكو.. كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز.. ثم يبخلَ على الجنود بأرزاقهم»!
ويكمل «الهمذانى»: «إن هولاكو.. أمر بإحضار نساء الخليفة.. فبلغن (700) زوجة وجارية وألف خادم»..!
ويقول «الأشرف الغسانى» فى كتابه «العسجد المسبوك» عن الخلافة العباسية: «اهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظرة الكليّة.. واشتغلوا بما لا يجوز من المصالح الدنيوية. والمُلكَ قد يدوم مع الكُفر.. ولكنه لا يدوم مع الظلم».
(4)
هكذا ينقل لنا الشيخ محمد الغزالى صورةً بائسةً لليلة سقوط بغداد قبل سبعمائة عام.. كيف كان الخليفة لا يعطى الجيش ولا الشعب.. لا العلماء ولا الفقهاء ولا المفكرين ولا المؤرخين.. وحين كان راتب كبار العلماء حفنة دنانير.. كان الخليفة يدفع أكثر من نصف مليون دينار.. فى «نقوط» و«صباحيّة» رجاله التافهين!
ولقد كانت مثيرة للغاية كلمات هولاكو فى خطابه قبل الغزو: «نحن جند الله فى أرضِه.. خلقنا من سخطِه.. وسلّطنا على من حلّ به غضبه.. لقد ثبت عندكم أنّا نحن الكَفَرة.. وقد ثبت عندنا أنكم أنتم الفَجَرة»!
(5)
جاء البطل سيف الدين قطز.. وجاءت معركة الجيش المصرى العظيم فى عين جالوت.. لتعيدَ التاريخَ إلى المسار الصحيح.
ولوْ كانَ قطز نموذجاً آخرَ من الخليفة الفاسِد.. لكان هولاكو قد واصَلَ هدْم ما بقى من الأمّة والحضارة.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر