(١) كما ذكرنا فى مقال الأسبوع الماضى، حصل الإخوان فى المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب عام ٢٠٠٥، على ٣٤ مقعداً، وفى المرحلة الثانية على ٤٢ مقعداً أخرى.. كانت الأجواء فى هاتين المرحلتين هادئة إلى حد كبير، الأمر الذى جعل الإقبال الجماهيرى على صناديق الاقتراع غير مسبوق.. ويبدو أن هذه النتيجة لم تكن متوقعة بحال، سواء داخلياً أو خارجياً.. كان تصور السلطة أن الإخوان سيحصلون على ٥٠ مقعداً على أقصى تقدير فى المراحل الثلاث.. ولأن المرحلة الثالثة كانت تمثل مركز الثقل بالنسبة للإخوان؛ من حيث نوعية المرشحين والكتل التصويتية، وأنه من المتوقع أن يتجاوز العدد فيها ٥٠ مقعداً، لذا شعر الكيان الصهيونى أن الوضع السياسى فى مصر سوف يكون عرضة للتحول سلبياً تجاهها، وهو ما جعل -طبقاً لرواية الأستاذ هيكل- رئيس الوزراء الصهيونى آنذاك يقوم بالاتصال بجورج بوش الابن كى يتدخل لدى الرئيس الأسبق حسنى مبارك لإعاقة الإخوان عن بلوغ أهدافهم فى تحقيق أكبر عدد ممكن من المقاعد.. لذا، فى المرحلة الثالثة، تبدلت الأجواء تماماً، وكان واضحاً منذ اللحظة الأولى أن السلطة مصرة على الدخول فى معركة تكسير عظام مع الإخوان، حيث ألقت سلطات الأمن القبض على نحو ١٧٠٠ من الإخوان.. ليس هذا فقط، وإنما تم الدفع بأعداد هائلة من المجرمين والبلطجية والمسجلين خطر، الذين يحملون السيوف والسنج والمطاوى والشوم والعصى، للدخول فى معارك مع المواطنين وأنصار مرشحى الإخوان.. وكانت النتيجة: ١٤ قتيلاً و٨٠٠ جريح ومصاب.. كما تم حصار لجان الاقتراع بحشود كثيفة من جنود الأمن المركزى لمنع الناخبين من الوصول إلى لجان الاقتراع.. وقد سجلت عدسات الفضائيات العربية والعالمية كل ذلك، وشهدت شعوب العالم أعمال العنف والبلطجة التى تمارسها السلطة فى حق شعب مصر، الأمر الذى كشف زيف الادعاء بوجود أى صورة من صور الديمقراطية.
(٢) فى ظل هذه الظروف لنا أن نتخيل كيف مضت أعمال التزوير بكل أشكالها وألوانها ووسائلها وقبحها ودمامتها.. وقد سجل السادة القضاة الشرفاء كل مخازى التزوير وفضائحه وفجاجته، كصفحة سوداء فى تاريخ هذه السلطة.. وكما كان متوقعاً، جاءت نتيجة المرحلة الثالثة متواضعة للغاية، فقد حصل الإخوان فيها على ١٢ مقعداً فقط (!!) ولعلنا نتذكر جيداً أن السيد أحمد نظيف، رئيس وزراء مصر الأسبق، أعلن -دون مواربة- أن الحكومة قامت بتزوير ٤٠ مقعداً كانت تخص جماعة الإخوان، كان منهم الدكتور محمد مرسى.. وبالتالى يمكن اعتبار ما حصل عليه الإخوان فى هذه الانتخابات هو فى الحقيقة ١٢٨ مقعداً، وليس ٨٨.. ومعنى هذا أن النسبة التى حققها الإخوان هى نحو ٧٥٪ من جملة مرشحيهم الـ١٦١.. هذا فى الوقت الذى حصل فيه حزب السلطة على ١٤٥ مقعداً فقط، أى ما نسبته نحو ٣٣٪ من جملة مرشحيه الـ٤٤٤.. ولولا أعضاء الحزب الذين ترشحوا بعيداً عنه وفازوا كمستقلين ثم انضموا إليه بعد ذلك فى عملية مفضوحة، لما حصل الحزب على الأغلبية.. لقد أفزعت النتيجة الحقيقية للإخوان السلطة ومن وراءها، خاصة أن الأحزاب التقليدية لم تحصل إلا على بضعة مقاعد قليلة.. ولا شك أن هذا هو السبب وراء حالة الاستقطاب الحادة بين السلطة من ناحية والإخوان من ناحية أخرى.. وبات واضحاً للكثيرين من المحللين والمراقبين أنه فى ظل إتاحة أجواء من النزاهة والحرية والشفافية يمكن للإخوان أن يحصلوا على أغلبية برلمانية تمكنهم من تغيير الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مصر.
(٣) بعد أن أصبح للإخوان ٨٨ عضواً فى مجلس الشعب، فوجئت بالمرشد محمد مهدى عاكف يقول لى: أظن أننا لم نعد بحاجة الآن للتحالف الوطنى للإصلاح!! وقعت هذه العبارة علىَّ كالصاعقة.. لم أكن أتصور صدورها من المرشد، خاصة أنه كان محفزاً ومشجعاً على التحالف.. لحظتها مر بخيالى ما كان يقوله بعض قيادات الأحزاب، وهو أن الإخوان ليسوا عند كلمتهم، وأنهم لا يوفون بعهودهم، وأنهم لا يعرفون سوى مصلحتهم الخاصة.. إذا ضيقت السلطة عليهم الخناق، تعالت صرخاتهم واستغاثاتهم بالأحزاب والشعب، أما إذا زال التضييق وبدأ الإخوان يزاولون نشاطهم المعتاد، نسوا الأحزاب والشعب.. كدت أتقيأ وأنا أستعيد تلك الكلمات التى قيلت لنا يوم ذهبنا -كوفد- لحزب التجمع لعرض فكرتنا حول التنسيق والتعاون للإصلاح السياسى فى مصر.. يومها كانت كلمات أعضاء الحزب كالسهام تتناوشنا من كل جانب، فتصيب عقولنا وقلوبنا.. تذكرت ذلك كله، وتذكرت الجهد الكبير الذى بذلناه مع الأحزاب والقوى السياسية والوطنية فى إنشاء التحالف الوطنى للإصلاح، وكيف أن كل عنصر فيه كان يضع فيه أمله.. فماذا نقول لهؤلاء، وما هو موقفهم وردود أفعالهم، وما أثر ذلك على نظرتهم للإخوان، وهل من الممكن بعد ذلك أن نطلب منهم تعاوناً، والأهم من ذلك كله ما هى نظرتنا تجاه أنفسنا؟ أسئلة كثيرة دارت فى رأسى فى لحظات.. لقد تربينا منذ صغرنا على المروءة والشهامة والصدق والوفاء، وكيف أن هذه المعانى كانت -ولا تزال- تمثل السبيل إلى النهوض والرقى والتقدم.. لكن، إذا بنا بعد هذا العمر ننقض عهودنا ونتصرف إزاء أهم وأخطر القضايا بهذا الشكل المخجل والمزرى.. قلت: يا أستاذ عاكف.. هذا موقف لا يليق، فضلاً عن أنه لا يتسق وأصول هذه الدعوة.. وإذا كان هذا هو الخط الذى سنسير عليه، فأبشر بالنهاية التى تنتظر الجماعة.. أستاذ عاكف: لا يغرنك حصول الجماعة على ٨٨ مقعداً فى مجلس الشعب، فليست هذه نهاية المطاف، ولا ندرى ما يصنع بنا فى مستقبل الأيام، خاصة أن دوام الحال من المحال.. ثم اختتمت حديثى قائلاً: أستاذ عاكف.. إن نبل الهدف لا بد أن يواكبه شرف الوسيلة، وإلا أصبحت «ميكيافيلية» مقيتة.. الحقيقة أن الرجل أسقط فى يديه، ولم يكن لديه ما يقوله.. كأنه فوجئ بهذا الرد.. ربما تصور أنه يريحنا من عنت التواصل مع بقية مكونات التحالف، أو ربما تخيل أن وجود الـ٨٨ نائباً لنا فى مجلس الشعب سوف يكون بديلاً عن التحالف، غير أن ما حدث بعد ذلك أثبت العكس (!)
(وللحديث بقية إن شاء الله).