فجأة، ومن علوم الله، قفز إلى سطح النقاش العام موضوع «إلغاء مادة التربية الدينية». المناسبة تصريح أدلى به الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف لبرنامج «كلام تانى» الذى تقدمه الإعلامية المجتهدة «رشا نبيل». استمعت إلى مداخلة الوزير، والحقيقة أن الرجل لم يتحدث عن إلغاء مادة التربية الدينية، وإنما كان حديثه عن إضافة مادة «القيم والأخلاق والمواطنة» تدرس لجميع تلاميذ المدارس فى مصر وتتعامل مع المساحة الأخلاقية المشتركة بين الأديان، ومن المعلوم بالضرورة أن كل الأديان تحث على مكارم الأخلاق. وزير التعليم أكد على هامش اللغط حول هذا الموضوع أن إلغاء مادة التربية الدينية ليس قراره، وأن تدريس مادة «الأخلاق» لا يتعارض مع استمرار مادة التربية الدينية.
لعلك تتفق معى أن أصل الجدل حول هذا الموضوع يتعلق بالاتهامات التى يوجهها البعض إلى مواضع محددة فى كتب التربية الدينية يصفونها بترويح التشدد والتطرف، وبغض النظر عن سلامة أو دقة الاستخلاصات التى يبنى عليها البعض هذه الاتهامات، أجد أن حضور مادة أو غياب أخرى لن يحل مشكلة التطرف. ومن يفكر بهذه الطريقة ويعتمد تلك المنهجية لا يريد أن يتعامل بشكل حقيقى ومباشر مع جملة الأسباب التى أدت إلى المشكلة. وجود مادة للأخلاق والقيم والمواطنة لن يؤدى إلى اختفاء التشدد والتطرف، وغياب مادة التربية الدينية لن يحل المشكلة، فمنذ أن عرف المصريون التعليم كان الدين يشكل مكوناً مهماً من مكوناته. ولعلك تعلم أن كبار أدبائنا ومفكرينا ممن يوصفون بـ«التنويريين» تربوا داخل «الكتاتيب»، التى كان ينخرط فيها الأطفال منذ نعومة أظافرهم ليحفظوا القرآن الكريم، وكان أغلبهم يتم حفظه قبل بلوغ الثانية عشرة من عمره، ليس المفكرون وفقط، بل إن بعض فنانينا الكبار حفظوا القرآن الكريم داخل الكتاتيب، ومن المؤكد أن كل من تعرض لهذه التجربة كان يستمع إلى شروح أو تفاسير لآيات القرآن الكريم، ورغم ذلك لم نسمع من أحد منهم ترديداً أو قبولاً لأية فكرة متطرفة، على العكس تماماً، كانوا دعاة تسامح وتنوير وعقلانية. الآن لا تحظى حصة التربية الدينية ولا المادة المقررة بأى اهتمام سواء من جانب المدرسين أو من جانب الدارسين. ومادة الدين تخضع لما تخضع له كل المواد التعليمية بالمدارس من اعتماد على آليات الغش، حتى ولو كان لآيات القرآن الكريم، للمرور من الامتحانات، يعنى وجودها مثل عدمها، وأرجو ألا تفهم من ذلك أننى أدعو إلى إلغائها، لكننى أشخّص لك حالة.
ماذا يعنى ذلك؟ إنه ببساطة يعنى أن العلة ليست فى المقرر، بل فى الظرف الثقافى العام الذى يهيئ العقول والنفوس لقبول أو رفض الأفكار المتشددة والمتطرفة. مصر لم تعرف التطرف بسبب المقررات الدينية، قدر ما عرفته بسبب بعض المدرسين الذين تأخونوا أو تسلفوا وشاركوا مع بعض الدعاة والإعلاميين والاقتصاديين والسياسيين فى نشر الفكر الصحراوى، وهو الفكر الذى نما فى الحقبة النفطية التى بلغت ذروة صعودها فى السبعينات والثمانينات، الفكر الصحراوى «النفطى» لم يكن مجرد رؤية شاذة لحقائق الدين، بل عبر أيضاً عن رؤية اقتصادية أساسها السمسرة والتجارة والاستهلاك، ورؤية اجتماعية تقوم على ضرب وحدة وتوازن الأسرة، ورؤية سياسية أساسها التصافق، وفكر فنى يجد أن غايته «هلوسة العقل»، وليس بناء الوجدان. فكر ينظر إلى الحياة من منظور تجارى. التجارة بالدين أصل التطرف.. وللأسف الكل يتاجر!.