عقارب الساعة تقترب من السادسة مساء يوم 17 أغسطس 2013، لم يتبق سوى ساعة واحدة على موعد حظر التجوال، شارع السودان مختنق عن آخره بالسيارات، أُطل من وراء نافذة السيارة الأجرة «الميكروباص»، المتمركزة أمام مزلقان أرض اللواء، فإذا بمسيرة لأنصار المعزول، تتعالى هتافاتهم بهيستيريا «مرسى راجع»، يأتى الرد سريعاً من الباعة الصعايدة ممن يتحصلون على قوت يومهم من بيع الفاكهة، برقصة بالعصا على أنغام «تسلم الأيادى»، يقطعها صياح منتقبة وسط المسيرة الإخوانية، ضربت بفتاوى مشايخها -باعتبار صوت المرأة عورة- عرض الحائط، وصاحت صيحة تكفيرية، «يا ظلمة.. يا كفرة.. بتحاربوا شرع الله يا كفرة».
ظلت صيحات التكفير ترن فى أذنى، كطنين الرصاصة التى كادت تخترق جسدى، أثناء التغطية الصحفية لأحداث فض اعتصام رابعة العدوية، فالمشهد كان الأصعب فى حياتى وقتها، مر وقتها أمام عينى كشريط سينمائى، طلقات الرصاص الحى تمر من كل ناحية، لا تعلم لها مصدراً محدداً، فالموت فى أى لحظة قد يقطع صياحى عبر الهاتف لزملائى فى النافذة الإلكترونية لـ«الوطن» الصغير، محاولاً السبق بخبر بدء عملية فض الاعتصام، فجلسنا أنا وزملائى أحمد العميد، وإبراهيم عبدالمنعم، وعصام رأفت، الليل بطوله فى مخيمات الاعتصام، انتظاراً لتوثيق لحظات فارقة من عمر «الوطن» الأكبر بالكاميرا والقلم، كانا سلاحنا فى المعركة المسلحة، فالمشهد كنا نظنه وقتها الأعنف بعد عام كامل من مظاهرات واعتصامات وأحداث عنف دامية، قضيناها فى تغطية إخبارية من التحرير والنهضة والجيزة وأمام قصر الاتحادية، حتى جاءت الملحمة الشعبية فى 30 يونيو، وخرج الشعب لينفض غبار الجماعة عنه، ولكن الإرهاب الذى خضَّب القطر العربى بالدماء، وحوَّل مدن سوريا وليبيا والعراق إلى مدن أشباح، جاء ليعاقب شعباً عزم بإرادته الجبارة على اقتلاع تجار الدين من أرضه، بعد عرض مسرحى رأيته أمام عينى يبدأ بـ«غزوة صناديق» فى مارس 2011، وكان آخر فصوله الكلامية بالنسبة لى بحديث تلك «المنتقبة التكفيرية».
ضجيج «موتور» السيارة المتهالكة، يقطع شرودى لأترك مشهد «رابعة» الدموى، وأعود إلى المشهد بشارع السودان من جديد، لم يتبق سوى نصف الساعة على انتهاء الحظر، أصحاب المحال يهمون بغلق محالهم، السيارات تتسابق للوصول لهدفها قبل فوات الأوان، المارة يسارعون إلى منازلهم، وأنا أريد أن أبلغ غايتى إلى «الوطن» الصغير، وما زلت أتذكر ما فعله «الإخوان» خلال عام واحد من موضوعاتى الصحفية، فتلك سيناء تحولت إلى أرض الخوف، بمذابح ضد جنودنا فى رفح والعريش، وأتذكر قصتى عن التجارة المشبوهة بين مصر وغزة فى عهد الإخوان، وابن شقيقة إسماعيل هنية، الذى جاء إلى مصر ليتزوج المصريات ويصحبهن معه عبر الأنفاق إلى غزة، ولم أنس معايشتى ليوم العرض المسرحى «سمع هس» بكلية العلوم بجامعة القاهرة، الذى منعه طلاب الجماعة وقتها، واعتدوا على أعضاء الفرقة المسرحية بالضرب، كل هذه المشاهد، كانت بداية النهاية لحكم «الإخوان».
تتوقف السيارة فجأة، لينبهنى السائق ببلوغ مقصدى، الساعة السابعة الآن، المشهد من حول وطننا الصغير لا يختلف كثيراً عن حال وطننا الأكبر، مسيرة إخوانية تحاصر المقر، ويطلقون الهتافات والألعاب النارية فى محاولة لإرهاب الصحفيين، فهذا المشهد ليس بجديد علينا، فاقتُحم مرتين فى عهد «الإخوان»، أتسلل وسط الزحام للحاق بزملائى داخل المقر، لتكون بداية العمل فى ليلة لا تخلو من المخاطر من أيام مهنة البحث عن المتاعب، ولكنها كلها تزول عندما تصعد إليهم، وتجد حالة من البهجة، والأمل فى المستقبل فى أعين شباب «الوطن» الصغار.