منذ شهور.. كنت معه فى منزله.. تعودت أن أزوره كلما سمحت الظروف وكلما ضاق الصدر وزاد الحنين إلى الماضى.. كنت أذهب إلى منزله فى الحلمية القديمة.. وكنت أتوه فى البدايات.. وصار قلبى لا يخطيء المكان إليه.. أصعد إلى الطابق الخامس.. حيث شقته.. الموسيقار إبراهيم رجب.
هنا فى هذا المكان.. مكتبته.. عوده ورفيقه قرابة ٦٠ عاماً من الطرب والفن الجميل.. هذا الهدوء.. وهذه البساطة.. وهذا الذهن الحاضر والحكايات العامرة "الدافية".. حكايات من قلب التاريخ.. لم أتعامل معه "صحفى وملحن كبير".. كنا نتعامل هكذا "ضيف ومضيف".. اب وابن.. خال.. عم.. هكذا منذ تعارفنا فى 2001.. كنت يومها فى خطواتى الأولى صحفياً.. وتعلقت به وبفنه وتاريخه وجلسته.. عم إبراهيم له تاريخ وحكايات يجب أن توضع فى كتب.
إبراهيم رجب هو الضلع الثالث للراحلين العظيمين صلاح جاهين وسيد مكاوى.. كان " الانتيم " والرفيق لهما.. وها هو شهر أبريل يأبى بكل قوة إلا يرحل دون أن يأخد بيده عمنا إبراهيم رجب إلى حيث الرفيقين.. إنه أبريل الذى خطف صلاح جاهين فى العام ٨٦ وخطف الشيخ سيد مكاوى فى العام ٩٧.. ومساء أمس الأحد 30 أبريل.. لم يستأذن الموت أو أبريل فى الرحيل.. فقط هو القرار الإلهى.. الذى نفذه عمنا إبراهيم رجب بـ"صبر" وقلب بشوش ضاحك منذ سنوات طويلة.
فى السنوات الأخيرة وفى زياراتى له.. كان قلبى يشعر أنه سيرحل.. نعم.. الرجل المولود فى 31 مايو 1931 سيرحل.. كنت أقول لنفسى "ستندم كثيرا عندما يرحل هذا الرجل".. كيف لا أسجل له مذكراته.. كيف لا يحدثنى عن صباه وعمله طفلاً.. حكى لى أنه فى سن الطفولة اشتغل «جروم» وهى مهنة انقرضت بعد سقوط الملكية.. كانت الأسر الملكية تستعين بطفل وسيم.. تجعله يرتدى بدلة سمراء اسموكن وبابيون.. ويجلس بجوار السائق.. وكل مهمته أن يفتح للأمير أو الأميرة باب السيارة بكل أدب.. وكان عمله مع الأميرة حورية محمود حمدى.. كيف لم أتعامل مع الرجل بصفتى الصحفية.
كيف لا أسجل حكاياته عن الأبنودى.. هذا الشاب الصعيدى اليافع الذى اقتحم حفلاً عائليا وقال شعراً وهاجموه واحتضنه عّم ابراهيم وقتها وكان شاباً.. واعطاه "بدلته" ليذهب بها إلى الاهرام ويلتقى احد قياداتها.. وظنى انه العبقرى اكبير صلاح جاهين .
..كيف لا أسجل نوادره مع صلاح جاهين وسيد مكاوى وكيف تعرف على " مكاوى " فى اواخر الاربعينيات.. وكونا " دويتو " رائع.. .. كيف لا اكتب عن أغنياته ل عبد الحليم " يا بلدنا لا تنامى " التى صارت هى الحاضرة بقوة فى ثورتى "25 يناير و30 يونيو كما كانت حاضرة ايام " ناصر ".. "
وايضاً " من قلب المواكب ".. كيف لا استمع منه ل قصة اغنية " يا بيوت السويس " وهو الشريك فيها مع العظيمين عبد الرحمن الابنودى ومحمد حمام "
"..ولا اغنيته " تعيشى يا بلدى يا بلدى تعيشى " والتى غنتها المجموعة..
..وكيف لا أدوّن عن أغنياته الكثيرة الى غناها محرم فواد
و ماهر العطار واغتيته الوطنية " دار المكن "
لماذا فاتنى ان أروى على لسانه كيف أصبحت أغنية " درجن درجن " فى فيلم الكيت كات واحده من علاماته
كيف لا اكتب عن موسيقى " البيه البواب ".. ولا عن أغنية " انا بيه انا بيه "
.ولا عن الموسيقى التصويرية لمسرحية شاهد مَشفش حاجة ولا حكايته مع سعاد حسنى ولا عمله مع بوجى وطمطم ولا حبه ومراقصته ل العرايس .
كيف اترك هذا الكنز واكتفى باتصال تليفونى.. اسمع فيه احلى ضحك من قلب منهك.. ولا ارتوى من صفاء القلب والعقل ونقاءهما...لماذا توقفت عن الكتابة.. لماذا فضلت ابراهيم رجب " الانسان ".. كتبت عنه تقرير واحد نشر فى جريدة القاهرة عام ٢٠٠٢.. تقرير عنه استحوذ على ثلث صفحة وقدمت يومها حوالى ١٥ صورة من كنوزه.. هذا عبد الحليم فى منزله.. وهذا الابنودى ب " كلسون ابيض ".. وهذا صلاح جاهين وفؤاد حداد
وهنا كانت البروفات.. هذا التقرير يومها جعل وزارة الثقافة تكرمه بوصفه رجل له تاريخ طويل.. وبوصفه من الرواد.. وقابلته بعد التكريم.. وقال لى :" تعرف فاروق.. يقصد فاروق حسنى.. اه كرمنا.. بس تخيل قعدنا فى صف.. وزوجاتنا فى الصف.. مكنتش حابب التكريم ده "..كان يعشق زوجته.. ولا ترى فى حياتها سواه.. منذ قليل شاهدتها فى لحظات الوداع بجنازته التى خرجت من مسجد بهاء الخلواتى بشارع بورسعيد.. كانت فى دنيا اخرى.. كانت تقول كلمة واحدة.. حبيبى يا ابراهيم.. حبيبى يا ابراهيم.. قالتها عند الجامع.. وهى متكأة على من حولها.. وكررتها كثيراً امام مدافن الاسرة فى مقابر النصر.. بكت بصوت " متهالك " ك قلب عم ابراهيم.. وبجواها ابنتيها عبير ودينا.. ومنعت " الغربة " الابنة شمس ان تحضر وتلحق بدفن والدها.. هى فى كندا .فى السنوات الاخيرة.. .ندمت الان صحفياً اننى لم انشر كثيرا او أحاوره.. لكن لم أندم انسانيا ً.. كان الود موصول والحب حاضر .
مات الملحن الكبير وكان الدفن صباح اليوم الاثنين.. عم ابراهيم رجب ارتاح.. و قلبه الضعيف اطمأن.. رحل وترك عوده الذى لم يلمسه منذ ٢٠٠٨.. لم يلمسه اعتراضا على وضع الاغنية وأحوالها فى السنوات الاخيرة.. ترك " عوده " يحزن عليه.. يحزن.. وتبكى أوتاره وتدمع وتبحث عمن يداعبها.. ولا تجد.. ولن تجد.. لان عم ابراهيم.. مات