(هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. ترى هل نمر ببعض منها، أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت..)
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس.. ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. مازلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر.. ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها.. لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة، قبيح غالباً.. متجمل فى بعضها.. برىء فى قليل منها.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى ذات السؤال ملحاً.. هى ثورة أم مؤامرة؟.. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عصى على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
مجنونة يا قوطة
أخبرنى صديقى د.خالد أمين بأنهم اشتروا كيلو الطماطم بـ15 جنيهاً والبصل بـ10 جنيهات بمنطقة المهندسين، حيث يقطن كلانا، فى استغلال قمىء لحظر التجول. كما أخبرنى سائقى محمد بأنه يشترى كارت شحن الموبايل بـ17 جنيهاً، بينما سعره الأصلى 10، وهو شىء يحتاجه بشدة العاملون بالمنازل وحارسو العقارات والكثير منهم من الأقاليم للاطمئنان على ذويهم.. شعرت بغضب.. وشممت رائحة خيانة وطنية.. فجاءت الفكرة.. وفوراً تم عقد اجتماع ثلاثى مع مساعدتى (أم يوسف)، و(محمد)، وكانت نتيجته أننا اشترينا من أقرب سوق جملة للخضار، وهى سوق ساحل أثر النبى (أقفاص) طماطم وخيار وكوسة وأجولة بصل وبطاطس وجزر وبطاطا، وكذلك كروت شحن الشركات الثلاث بالسعر العادى، حيث تطوع صديقى الجميل مهندس أحمد، وهو على علاقة بموزعى الشركات بمدنا بـ100 كارت من كل نوع فئة 10 جنيهات.
وطبعاً لم ننس إحضار ميجا فون اشتراه لنا أستاذ حسن، صاحب إحدى المطابع الشهيرة بالعتبة. وفى 24 ساعة بدأت كتيبة تأديب المستغلين من الباعة ضعاف النفوس، حيث تحولت سيارتى إلى بارجة حربية محملة شنطتها وكنبتها وحتى سقفها بكل أنواع الخضار التى لدينا، وميزان ديجيتال لنجوب شوارع المنطقة فى مظهر كرنفالى هولندى مع فارق بسيط، وهو أن الطماطم والخيار والجزر حلت مكان التيوليب والبانسيه والجلاديولس.
انطلقنا فى شوارع وسط العاصمة والمهندسين والدقى نعلن عن الأسعار الحقيقية للمنتجات، فالطماطم رغم جنونها كانت بـ2 جنيه والبصل بجنيه ونصف، وهكذا دعونا الناس عبر الميجافون كى لا يسمحوا لأحد بالتربح على حساب الوضع السياسى، فاستغلال المحن خيانة..
وكانت النتيجة رائعة، حيث فتحت النوافذ والشرفات وقد امتلأت عيون قاطنيها بحب الاستطلاع الذى سريعاً ما تحول لصيحات تشجيع وتعليقات مرحة من شعب لا يكل بالضحكات.. تجمع الكثير من السكان وحارسى العقارات. الكل يساعد فى التعبئة والوزن وإحضار مزيد من الأكياس بعد أن نفذ ما لدينا.. كل ذلك مغلف بعبارات إطراء أخجلتنا وجعلتنا نشعر بأننا كتيبة فى مهمة رسمية، وللإقبال الكبير فقد نفدت الكمية وتم تحميلها مرتين بعد ذلك من السوق مرة أخرى.
ونظراً لمتابعة أستاذى العزيز الأديب م. محمد محرم لى للاطمئنان علىّ، فقد طمعت كعادتى وطلبت منه صياغة ما ندعو به الناس وكعادته لم يخذلنى أبداً، وكان رده فى دقائق:
إحنا لا خضرى ولا فكهانى
إحنا من منطلق سامى
مش عايزينك بس تعانى
اللى يعلّى أسعاره يغالى
يبقى خاين واستغلالى
بالتسعيرة تشترى حاجتك
ولا حد يتاجر بمشاكلك
.. لأعرف بعد ذلك أن فى المناطق الشعبية تكونت لجان كانت تنزل العقاب بالباعة المستغلين، وتوفر هى السلع...
وهكذا ظل يفاجئنى من حين لآخر بعض من اشتروا منا أو شاهدوا التجربة بتحيتى أثناء سيرى فى المناطق التى بعناها فيها.. لأبتسم وأنا أتذكر تلك التجربة العجيبة رغم بساطتها، لكنها منحتنى يوماً من أجمل أيام حياتى.. وللحديث بقية.