"التكايا الصوفية".. "ملاذ" العاصي والجائع والذاكرين
صورة أرشيفية لجلسات الذكر الصوفية قديما
في إحدى القاعات الواسعة الملحقة بمسجد "أبو العزائم" في السيدة زينب، تعلو أصوات الذكر والابتهالات الواردة بالقرآن والسنة، عقب صلاة التراويح في ليل شهر رمضان، بينما يتمايلون في شكل منظم متناغم يعبر عن ذوبانهم عشقا في الذات الإلهية، لتجذب آذان المارة والسكان المجاورين، الذين لا يتمكنون من تحديد الألفاظ كاملة بشكل واضح سوى كلمة "الله"، فلا يدركها سوى الصوفيين الحقيقيين.
لم تقتصر تلك القاعة على الذكر والابتهالات فقط، وإنما تتوفر بها بعض سبل الحياة كتوفير الطعام طوال العام، فيما تُعرف بـ"التكية"، والتي تهتم بتقديم المساعدة للمحتاجين والدروس العلمية والدينية، بحسب الشيخ علاء أبو العزائم، شيخ "الطريقة العزمية"، مشيرا إلى أنها تطور للذكر الذي أوجدته الصوفية في العصر العباسي.
القصبي: مهام التكية لا تقتصر على تقديم الطعام وترديد الذكر.. وتشمل حل المشكلات وتقديم العلم
وقال أبو العزائم، لـ"الوطن"، إن الفساد والفسوق انتشر بشدة بين المسلمين في العصر العباسي لشدة الثراء فيه، خاصة ليلا، من شرب الخمر وممارسة الدعارة، ولذلك أوجد عددا من مشايخ الصوفية فكرة "الذكر" بعد صلاة العشاء أو التراويح في رمضان لـ"هد الجسد"، على حد قوله، بهدف منعه من الاتجاه إلى فعل تلك المعاصي، ومن ثم تم تخصيص أماكن لذلك الأمر وهي "التكية".
"ممتلئ بك،
جلدا ، دما، وعظاما، وعقلا وروحا،
لا مكان لنقص رجاء، أو للرجاء،
ليس بهذا الوجود إلاك".. جلال الدين الرومي
التكايا الصوفية.. تعتبر من العلامات الدينية المهمة التي بالعصر العثماني، أنشئت خصيصا لإقامة العبادات والأذكار الصوفية ومساعدة المحتاجين عابري السبيل، وهي كلمة تركية الأصل المماثلة لكملة "الخنقاوات" التي ظهرت في العصر الأيوبي والمملوكي، وحلَّت بديلا عنها، وتعني الاتكاء والراحة.
"التكية" ليست مجرد ققاعة تابعة لمسجد أو منزل شيخ الطريقة، وإنما هي أشبه بـ"الكون" بأكمله، الوصف الذي اتخذه أتباع الصوفية من شعر جلال الدين الرومي، وهي ملاذ الصوفيين للبُعد عن ضغوطات ومشكلات الحياة، يلتقي فيه أبناء كل طريق لترديد الأوراد المعتاد عليها من الكتاب والسنة، والتسبيح والمدح، فضلا عن تلقي العلم، بحسب الدكتور عبدالهادي القصبي، رئيس المجلس الأعلى الطرق الصوفية.
"إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح
وإن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز
وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم
إن كل ما تبحث عنه هو أنت.. جلال الدين الرومي
وهي باب مفتوح للجميع لا يغلق للتكفير الذنوب للمخطئين دون السؤال عن هويتهم، رافعة لشعار "مرحبا بالعاصي"، وتوفير أيضا طوال أيام العام الطعام للفقراء، والاحتفال بالمناسبات الدينية والوطنية ولقضاء الحوائج من حلّ المشكلات المجتمعية، في حالة لجوء أحد إليها في الأمور الأسرية والقبلية، وتنتشر بجميع أرجاء جمهورية مصر، حيث كان أشهرها وأقدمها تكية "السليمانية" بالدرب الأحمر، على حد قول القصبي.
وتابع قائلا إن الدور الذي تقوم به التكية الصوفية لا يختلف عن مهامها طوال العام، على أن يكون المسؤول عنها هو شيخ الطريقة التابعة له، ومن الممكن أن يقوم بتنفيذ مهامها بنفسه أو بتعيين أبنائه أو المريدين أو شخص عالم في أمور الصوفية.
"مرحبا بالعاصي".. شعار التكايا الصوفية
لقيت التكايا الصوفية بالغ الاهتمام في عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان يوليها عناية خاصة، وينتقي كبار القوم للاعتماد عليه في تولي شؤونها ولنشر الفكر الصوفي، ويقود الجيوش لمواجهة المعتدين على الوطن أيضا، ويضيف شيخ مشايخ الصوفية أن ذلك الحال تغيير بتأسيس جيشا مستقلا لتلك المهمة، ما أدى لتغير دورها في العصر الحديث لتصبح قاصرة على الطعام والأذكار.
أكثر من 76 طريقة صوفية مسجلة في مصر، وبقدر تعددهم تتنوع احتفالاتهم وحلقات الذكر والأوراد ومواعيدها لديهم، فهم ليسوا اتجاها واحدا، ولكنهم جميعا ينتسبون إلى "إمام التابعين" الإمام حسن البصري، والأقطاب الصوفية الأربعة المعروفة التي تكونت وانتشرت باسمهم، وهم الشيوخ أحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي في مصر، وأحمد الرفاعي في العراق، وعبدالقادر الجيلاني في المغرب.