فى كتابه الذى صدر حديثاً بعنوان «العالم عام 2050» للمفكر الكبير «د. جلال أمين» يبدأ المؤلف باستهلال على هيئة سؤال يسأله لنفسه عما يكون عليه حال مصر عندما يبلغ حفيده الطفل ذو الثمانية أعوام عامه الخامس والخمسين أى فى سنة (2050).. يرى د. جلال أمين أن أغلب حالات التكهن تبوء بالفشل، وذلك لأسباب كثيرة من أهمها أن أغلب من يحاولون ذلك يعتمدون على طريقة الإسقاط، أى مد الاتجاهات السائدة فى الحاضر والماضى القريب إلى المستقبل فتخيب توقعاتهم، لأن الحياة لا تكف عن مفاجآتنا بانقطاع تجاه كنا نظن أنه سيستمر وبانحناء حاد فى طريق كنا نظنه مستقيماً.. يكفى أن نتذكر مثلاً ما كان يمكن أن نتوقعه ونحن فى عام (1950) أو ما حاولنا التكهن به بما يمكن أن تكون عليه مصر فى سنة (2000).. ربما تجرأ بعضنا فى سنة (1950) وتوقع قيام ثورة فى مصر.. ولكن من الذى يتجرأ فيقول لنا متى تقوم هذه الثورة وما نوعها ومن الذى سيقوم بها؟! من الذى كان يستطيع فى (1950) أن يقول إن ثورة ستقوم بعد أعوام قليلة جداً وسيقوم بها الجيش وإنها ستفعل ما فعلته وستنجز كل هذه الإنجازات؟! وإنه خلال الخمسين عاماً التالية أى بين سنتى (1950) و(2000) سوف تنتكس هذه الثورة وتتحول إلى ضدها.. أتصور أن هناك إرهاصات واضحة ومقدمات كثيرة دالة وأحداثاً مهمة، حتى وإن كانت غير خطيرة التأثير، تصب كلها فى إمكانية هذا الذى يصفه «د. جلال أمين» وأسماه بالجرأة فى الاستشفاف أو التوقع وذلك بالنسبة لثورة (1952) منها مثلاً تصاعد الاحتجاج وأصوات المعارضة فى الصحافة المصرية ضد استهتار ومجون الملك «فاروق» وفساد حكمه قبل الثورة بسنة.. وتغيير أربع وزارات متلاحقة بما يشى بالارتباك والتخبط والتضارب فى السياسات.. وقبل ذلك حريق القاهرة أثناء احتفال الملك بولى العهد وتقاعسه عن اتخاذ الإجراءات السريعة لإخماد الحريق.. بينما سعى على الفور فى إقالة رئيس الوزراء «مصطفى النحاس» لرغبته الشخصية فى التخلص منه.. وهناك أيضاً تلك المظاهرات التى نددت به وداس فيها المتظاهرون على صورته أمام قصر عابدين.. ناهيك عن تزايد الفوارق الطبقية الشاسعة بين الناس وتدهور مستوى المعيشة وانعدام العدالة الاجتماعية وقهر العامل والفلاح.
ومع ذلك فإن الدكتور «جلال أمين» يقول ما معناه أنه يحاول أن يقوم بالتجربة ويستشرف المستقبل رغم صعوبة ذلك ولو فقط من باب التمرين العقلى الذى لا يخلو فى ذاته من فائدة.. ويتوقع أول ما يتوقع أن تكون سنة (2050) أقل اهتماماً بمشكلة توزيع الدخل.. والمقصود هنا بمدى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء عما نحن عليه الآن.. ويرى أنه من الصعب على الإنسان أن يعيش دون أن يتميز عن غيره، ولكن من الممكن أن تزيد الفجوة اتساعاً دون أن تكون سبباً مهماً للقلق.. ويرجع ذلك إلى أن الفجوة بين الدخول فى الدول الصناعية الثرية تزداد اتساعاً منذ ربع قرن على الأقل دون أن يعتبر الناس أن هذه من أهم مشاكلهم، فالأمر يتوقف إلى حد كبير على المستوى المطلق لدخول الشرائح الاجتماعية الأقل دخلاً والشعور بالغيظ والمرارة عندما أرى شخصاً يأكل اللحم وأنا لا أستطيع شراءه لا بد أن يكون أقوى بكثير من شعورى عندما أرى شخصاً يركب سيارة لها نوافذ تفتح أتوماتيكياً بينما ليس لسيارتى مثل هذه النوافذ، وأعتقد أنه تأييداً منى لهذا المثال الذى ذكره «د. جلال أمين» أنى أزعم أن أحد إرهاصات أو مقدمات ثورة (25 يناير) المنطقية والمهمة هو إقدام صاحب كشك بيع سندوتشات فول وطعمية فى طريق مصر الإسماعيلية على سكب البنزين على جسده ومحاولة الانتحار أمام مبنى مجلس الوزراء، احتجاحاً على النقص العددى للأرغفة التى توزع عليه والخاصة بالكشك.. فلقمة العيش لها الأولوية.. ولو كان الفقر رجلاً لقتلته.. وكذلك فإن ثورة مئات العشوائيين الذين انهارت صخرة المقطم فوقهم مما اضطرهم للمبيت فى الشارع.. تجعلهم ينظرون بالغيظ إلى سكان يشعرون بمجرد الأمن -لا الرفاهية- فى بيوتهم التى ليس من الضرورى أن تكون فاخرة كبيوت الأغنياء.. ولكن يكفى أن تكون غير مهددة بالسقوط.. وهذه الفاجعة كانت أيضاً من إرهاصات ثورة (25 يناير)، حيث قذف البائسون الذين يلتحفون بالأرض رئيس الوزراء بالحجارة وأجبروه على العودة من حيث أتى ورفضوا زيارته لهم التى رأوا أنها زيارة صورية لا طائل من ورائها.. ثم يفجر «الدكتور جلال أمين» مفاجأة بزعمه أن هناك من الشواهد ما يجعل من المحتمل جداً أن نكون مقبلين على عصر جديد من الفكر الاقتصادى له سمات أقرب إلى سمات الفكر الاقتصادى الذى ساد فى العصور الوسطى منه إلى سمات الفكر الذى ساد فى الخمسمائة سنة الماضية، حيث يقل الكلام فى «الندرة» ومشاكلها ويحل محله الكلام عن «الوفرة» ومشاكلها.. وتقل بشدة حدة الفصل بين الاقتصاد والأخلاق.. أو بين الأخلاق والسياسة وغيرها من العلوم الاجتماعية ونعود إلى الجمع بينها، وتضعف بشدة النزعة القومية فى الفكر الاقتصادى ويصبح علم الاقتصاد أكثر إنسانية وأكثر عالمية.. وأوسع أفقاً من أفق الدولة القومية.
يا دكتور أمين.. إن حديثك عن الخوف من انفصال الوحدة التى تربط علم الاقتصاد البحت عن «الأخلاق» نتيجة مشكلة «الندرة» وتأكيدك أنها مشكلة مادية بحتة هو حديث رومانسى، لتصورك أن «الفراغ» الناتج عن الوفرة الزائدة عن الحد وعن الاحتياج هو الذى يؤدى إلى شرب الخمر أو الإباحية الجنسية أو الشذوذ الجنسى.. لكن الحقيقة.. كما وردت على لسان صاحب ورشة أثاث «بدمياط» الذى سرح (50%) من العمالة لديه، حيث أكد: «نعانى منذ ثورة (25 يناير) من ارتفاع أسعار الخشب والخامات بنسبة (100%) دون أدنى رقابة من الجهات المختصة، مما دفع المستوردين ورجال الأعمال إلى السيطرة التامة على الأسواق.. ونقابة صناع الأثاث والغرفة التجارية لا تبحث إلا عن (شو إعلامى) دون تقديم أى خدمة للعامل واقتصر دورها على خدمة طبقة رجال الأعمال التى سيطرت على الأسواق.. واستنزفت دماء المصنع البسيط.. هذا وقد شهدت السنوات الماضية كساداً كبيراً.. بالإضافة إلى انتشار المخدرات، خاصة «الهيروين» الذى يباع فى وضح النهار أمام المارة».