«هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها، أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت؟».
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر و«المقاوحة» أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر، ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى. أتذكّر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضمّ الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها، لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة قبيحاً غالباً، متجملاً فى بعضها، بريئاً فى قليل منها. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم يبقى ذات السؤال ملحاً: هى ثورة ولا مؤامرة؟ فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيّات كلمات، كان ولا يزال التاريخ وصاحبة الجلالة شاهدين عليها حين نُشرت فى حينها، وظلت مشروع كتاب عصىّ على الظهور للنور، بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
زمن الرمادة
طبعاً لأننا مثل باقى شعوب الأرض، وما دمنا لسنا فى الجنة فضعاف النفوس فينا موجودون بنسبة مئوية لا تتعدى باقى الأمم.
بل أصل إلى درجة من الاعتزاز ببلدى وأبناء بلدى تجعلنى أقول إنها نسبة ربما أقل من بلاد أخرى مقارنة بالفراغ الأمنى لشعب لا يجد قوت يومه حتى أزعم أنه يمكن أن يسقط عن بعضه جزء من حد السرقة الذى أسقطه عمر بن الخطاب فى سنة الرمادة.. فقد أصبحنا نعيش زمن الرمادة.
ومما يُثبت نظريتى ما حدث فى مدينة نيويورك حين انقطعت الكهرباء، وكذلك المولدات الاحتياطية عن المدينة لبعض الوقت لعطل مركزى فى أجهزة التحكم الإلكترونية، حيث تجرأ المواطن السوى الملتزم عادة وارتكب ما وجد الآخرين يفعلونه من سلب للمتاجر التى تعتمد على أجهزة إنذار وكاميرات مراقبة كهربائية فقط فى تأمين الواجهات الزجاجية الكبيرة التى تم تحطيمها من المارة، وكانت نسبة السرقات تتعدى كل تصور.
إذن التزام المواطن الأمريكى (بما لديه من إمكانات وفرص عمل وتأمين اجتماعى وصحى لا تقارن بنا) ليس عن قناعة شخصية وحسب، وإنما عن نظام رادع يعاقب المخطئ، فتلك طبيعة البشر (وأنا لا أعمم، فمنهم الشرفاء مثلهم مثل باقى شعوب الأرض).
حتى العدالة السماوية، وهى النموذج المطلق للذى خلق فسوّى، تعتمد على ثلاثة أعمدة، إذا فُقد أحدها اختلت المنظومة بأكملها، فما بالك باختلال ثلاثتهم، وهو ما نمر به الآن
- الرقابة (فالله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور).
- الثواب (فى الدنيا بما يُنعم به على من يرضى عنهم والآخرة بنعيمها السرمدى).
- العقاب (بالخزى فى الدنيا، وأمامنا آية لذلك ممن اعتقدوا أنهم ملكوا كل شىء وكذلك الآخرة وما تنطوى عليه من عذاب مقيم).
إذن، ليس من العدل القياس والتعميم بحوادث فردية نسبتها المئوية لا تتعدى النسب المعتادة فى كثير من البلاد مع استقرار أوضاعها، فالاستثناء يُثبت القاعدة ولا يلغيها، وضعاف النفوس سيظلون موجودين فى كل زمان ومكان.
وقد رأيت موقفاً ساذجاً، لكنه يحمل دلالات استوقفتنى كثيراً.. فنظراً لغلق معظم المحال وعدم إمكانية الشراء من أى مكان فى أيام حظر التجول قفز بعض المتظاهرين داخل الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، وبشكل أو آخر أحضروا زجاجات مياه وعصير وأطعمة مختلفة وأخذوا يقذفونها عبر سور الجامعة لجموع المتظاهرين. ورغم ما قد ينطوى عليه هذا التصرف من حسن نية، حيث المستهدف بخس الثمن ويوزع عشوائياً ومصدره مكان يرمز للطبقية من وجهة نظر البعض أو لدولة تتدخل فى شئوننا وتضمر لنا الشر من وجهة نظر أخرى، فإن رد جموع المتظاهرين، الذين كان الكثير منهم فى شدة الجوع والعطش ومنهم رقيق الحال الذى ربما لا يملك فى جيبه مليماً، أذهلنى وجعلنى أشعر بحيرة ممتزجة بالفخر، فبدلاً من التهليل والفرح بتلك الهبات، وبوعى جمعى دون اتفاق، بدأوا يعيدون قذف العصائر والأطعمة المختلفة داخل سور الجامعة ويصيحون فى المتطوعين، بتلك «الجدعنة» التى فى غير محلها، أنهم لا يريدون ما ليس لهم.. فعلاً إنه شعب عجيب.. وللحديث بقية.