لا أعتقد أن أحداً لم يسمع من قبل بتلك القصة؛ فقد انتشرت بين ربوع الناس منذ زمن بعيد كالنار فى الهشيم ولم تزل حتى يومنا هذا يتداولها الناس كأحد أدلة الإثبات لعدل الفاروق عمر بن الخطاب (رضى الله عنه).
فلطالما سمعنا من الخطباء والوعاظ قصة القبطى الذى اشتكى لأمير المؤمنين عمر أنه قد تعرض للجلد من ابن والى مصر آنذاك عمرو بن العاص (رضى الله عنه وأرضاه). وقد طار بها أقوام فى كل اتجاه حتى صارت أنشودة للحكمة والعدل فى الإسلام الذى لا يفرق بين مسلم ومسيحى.
والقصة تروى عن أنس بن مالك (رضى الله عنه) أنه أتى رجل من أهل مصر يحمل مظلمة إلى عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، فقال له يا أمير المؤمنين إنى عائذ بك من الظلم.. فأجابه عمر: «عذت بمعاذ»، فقال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربنى بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين.
لقد اشتكى المصرى إلى الخليفة كيف أن ابن والى مصر عبدالله بن عمرو بن العاص قد غضب لهزيمته فى سباق!!
والواقع إننى أتساءل عمّا يمكن أن يفعله خليفة -أى خليفة- فى أمر بسيط كهذا!!
ولكن الأمر لم يكن بسيطاً عند الفاروق، فقد كتب إلى عمرو بن العاص يأمره بالقدوم عليه، ويَقْدُم بابنه معه، فما إن وصل وكان بحضرته أمر الخليفة عمر أن يأتوا بالمصرى الذى قدم الشكوى.. وقال له: خذ السوط فاضرب.
يقول أنس ابن مالك: «فجعل يضربه بالسوط»، وعمر يقول: «اضرب ابن الألْيَمَيْن، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه». يقول أنس: فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصرى: ضع على ضِلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذى ضربنى، وقد اشتفيت منه!
لقد اكتفى المصرى بما فعل.. وأجاب الخليفة أنه قد اقتص من الذى ضربه، فلا داعى للثأر من والده أيضاً.
فما كان من عمر إلا أن وجه حديثه لعمرو بن العاص بكلمته الشهيرة: «مُذْ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
الطريف أن البعض ينكر سندها ومتنها لقول ابن عبدالحكم فى إسنادها «حدثنا».. وفى هذه الكلمة انقطاع بين ما قبلها وما بعدها.. ولكن معظم المؤرخين قد ذكروها فى مجمل كتاباتهم.. الأمر الذى يجعلها أقرب للصواب.. وفى حكم المؤكدة.
ربما كانت القصة تثبت أن عظمة الإسلام فى عدله، وتؤكد أنه لم يفرق بين مسلم ومسيحى فى الحقوق والواجبات، فهى تأكيد عملى لمبدأ «المواطنة» ومفهوم «المساواة بين الجميع».. حتى وإن اختلفت الملل وتباينت المستويات.
لكننى أزيد أن الأمر كله قد حدث على أرض مصر.. وكأن الله أراد أن يؤكد العدل على أرض الكنانة تحديداً دون غيرها!
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية!