د. على السلمى: كنا نستمتع بأصوات كبار المقرئين و«حلوى رمضان»
على السلمى
هذه الأيام يحلو للإنسان تذكُّر أيام وليالى رمضان فى الزمن الجميل الذى كانت فيه مصر فى أوضاع هى بالقطع أفضل بمراحل مما تعيشه الآن، زمن أن كنا نعيش بلا فوضى الحياة التى انشغل الناس فيها عن الاستمتاع برمضان وعاداته وتقاليده المصرية الأصيلة.
يتذكر الدكتور على السلمى، نائب رئيس الوزراء السابق، طفولته فى الإسكندرية، ويقول: كنت أعيش فى الإسكندرية حتى انتهيت من دراستى الجامعية فى كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، التى كانت تسمى من قبل جامعة فاروق الأول، وكانت ليالى رمضان حين يهل علينا فى شهور الصيف متعة لا تدانيها متعة، وأذكر أن الأسر فى أيامنا كانت تشجع الأطفال على الصلاة والصيام من سن تسع أو عشر سنوات، ووالدى كان يحببنا فى الصيام بالقدوة الحسنة، وكنا نقلده فى جميع ما يفعل، ونهار رمضان كنا نقرأ القرآن ونذهب للصلاة حتى يأتى موعد الإفطار، الذى كان عبارة عن تجمُّع لكل أفراد العائلة الكبير والصغير، وأذكر أمى التى كانت توقظنا قبل الفجر بقليل من أجل السحور ثم الصلاة.
سهرتنا كانت فى «رأس التين» بين ضيوف «الفاروق»
أما بعد الإفطار فكنا نسير على كورنيش الإسكندرية نتمتع بالهواء العليل ومنظر البحر الذى لا تحد أبصارنا عنه مبان أو منشآت تعوق الرؤية، ونظل فى سيرنا إلى نصل إلى قصر رأس التين العامر (هكذا كان يطلق على كل القصور الملكية)، وندلف إلى حديقة القصر بعد صلاة العشاء والتراويح، ونجد حديقة القصر قد صُفت بها مئات المقاعد لاستقبال ضيوف «الفاروق»، كان هذا هو اللقب المحبب إلى المصريين، يستمعون إلى كبار المقرئين يتلون آيات الذكر الحكيم، بينما يمر بينهم السفرجية فى زيهم المزركش حاملين أكواب المشروبات وأصناف الحلوى الرمضانية التقليدية.
وتمر الساعات فى متعة روحية لا تدانيها متعة، وفى بعض الليالى كان «فاروق» يظهر فى إحدى شرفات القصر ليحيى ضيوفه فيتهلل الحضور ويدعون له أخلص الدعوات.
الصلاة والصيام بدآ فى سن التاسعة.. ووالدى كان بيحببنا فيهم بـ«القدوة الحسنة»
ويتذكر «السلمى» أيام وليالى رمضان فى ذلك الزمن الجميل، والتى كانت خالصة للتعبُّد فى المساجد التى كان أهل الإسكندرية يتسابقون عليها، ومن أشهرها مسجد أبى العباس المرسى فى حى رأس التين قريباً من القصر الملكى، وعلى الجانب الآخر من المدينة كان مسجد آخر شهير وهو مسجد «سيدى بشر»، وبينهما فى منتصف المسافة كان يوجد مسجد «سيدى جابر»، ولكل من تلك المساجد شخصية ونفحات مختلفة يحسها الإنسان ويدركها من اللحظة الأولى لدخوله المسجد، كان الوقت متسعاً لقراءة القرآن الكريم والاستماع إلى صوت الشيخ محمد رفعت الملائكى فى التلاوة أو رفع الأذان، وكانت الإذاعة المصرية كما كانت تسمى حينئذ، تخصص نصف ساعة كاملة قبل المغرب لتلاوة القرآن الحكيم، بينما نجد الآن أن تلك المدة قد اختُزلت إلى دقائق معدودة يتربص بها المعلنون لتقديم إعلانات فجّة عن منتجات لا علاقة لها بالشهر الفضيل فى أغلب الأحيان. لم نكن فى ذلك الزمن الجميل نهتم بتلك المسلسلات الفجة والمتهافتة التى ينشغل بها المصريون منذ عدة سنوات والتى تشغلهم عن التفرغ للشهر الفضيل بالعبادة والتقرب إلى الله، حتى إنهم ينشغلون عن تناول طعام الإفطار فى هدوء وسكينة والاجتماع الأسرى التقليدى الذى حُرم منه المصريون فى غير رمضان، والسبب فى عدم اهتمام المصريين بالمسلسلات التليفزيونية وقتها هو غياب التليفزيون من الأساس، فقد بدأ الإرسال التليفزيونى المحدود فى إطار الاحتفالات بالعيد السنوى الثامن للثورة فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وتحديداً فى 21 يوليو سنة 1960 حين انطلق أول إرسال تليفزيونى مصرى، والذى غطى فى بدايته مدينة القاهرة والمناطق المحيطة بها حتى مسافة مائة كيلومتر فى جميع الاتجاهات، وكان الإرسال فى بدايته محصوراً فى قناة أرضية واحدة، ثم تلتها قناة أرضية ثانية، ولفترات إرسال محدودة كانت تبدأ نحو الساعة الخامسة مساء، وهو الأمر الذى تغيّر بشكل خرافى مع تعدد الفضائيات المصرية والعربية والأجنبية التى تبث برامجها على مدى اليوم وبالنمط الذى يطلق عليه 24×7 وبما أصبح بمثابة المرض العام الذى يبدد جمال وصفاء ليالى رمضان وكل أوقات السنة.
وكان مجال الاهتمام الأساسى للمصريين هو التحلق حول أجهزة الراديو التقليدية للاستماع إلى مشاهير القراء فى «قرآن السهرة» سواء من الإذاعة المصرية أو من إذاعة القرآن الكريم التى بدأت 29 مارس 1964 أو إذاعة صوت العرب.
وبعد ارتواء المصرى بعد سماع الشيخ محمد رفعت أو الشيخ مصطفى إسماعيل وغيرهما من أصحاب الصوت الملائكى، تكون المتعة مع أشكال الفن الرفيع من كنوز الطرب المصرى الأصيل، أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش، وأمثالهم من الرموز الفنية المصرية الذين أسعدوا الملايين فى مصر وكل العالم العربى والإسلامى لسنوات عديدة.
ولم تكن المقاهى بعيدة عن المشهد الرمضانى فى الإسكندرية، وكنا نقصدها لتناول الشاى بعد التراويح، ومنها على ما أذكر قهوة النجعاوى بشارع فرنسا، وهو مقهى كبير، اعتاد رجال الأعمال ارتياده، حيث يقدم جميع أنواع المشروبات، وذلك المقهى الذى اندثر كان بالنسبة لأهل الإسكندرية معادلاً لمقهى «الفيشاوى» بالقاهرة.
وكان شهر رمضان مناسبة لعديد من الفرق الفنية والمسرحية القاهرية لتقديم عروضها بالإسكندرية على مسارح بامتداد الكورنيش كان أشهرها مسرح سيد درويش بالقرب من حى الشاطبى، حيث يوجد مبنى إدارة جامعة الإسكندرية وبعض كليات الجامعة، ثم أنشئت مكتبة الإسكندرية، بعد ذلك أمام الأثر الشهير المسمى «السلسلة» فى ذلك المحيط.
أما رمضان فى سنوات البعثة والسفر فى الولايات المتحدة الأمريكية، فكان فرصة لتجمُّع الأصدقاء المصريين والعرب على مائدة إفطار جماعية فى يوم يستضيفها واحد منا من المتزوجين، وكان غير المتزوجين إما يدعوننا إلى الإفطار فى مطاعم عامة وإما يحاولون إعداد ما تيسر لهم بإمكانيات العزّاب، وأحلى رمضان يظل دائماً فى مصر، وتحديداً الإسكندرية.
ولم تكن أيام رمضان تكتمل إلا بلقاء أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد فؤاد شريف الذى كان لى شرف أن أكون من تلامذته الأوائل مع زملائى فى أول دفعة من شعبة الإدارة بتجارة الإسكندرية عام 1954 حين عودته من بعثة حصل أثناءها على الدكتوراه من جامعة شيكاغو الأمريكية، وكان محباً للجلوس على مقهى شهير على الكورنيش بمحطة الرمل ونحن متحلقون حوله فيما يشبه الأحلام، فقد كان غريباً فى ذلك الوقت أن يتبسط أستاذنا ويلقانا فى غير الكلية وقاعة المحاضرات، وقد ظلت علاقتنا بالدكتور فؤاد على مدى سنوات شغل أثناءها منصب وزير شئون مجلس الوزراء ووزير التنمية الإدارية حتى وفاته.