شعر بقرب الخاتمة، ونهاية مطاف الحياة فجمع عشيرته ناصحاً لهم: «يا معشر قريش، أوصيكم بتعظيم هذا البيت -الكعبة- فإن فيه مرضاة الرب وقوام العيش، صِلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن صلة الرحم منسأة للأجل، اتركوا البغى فقد أهلك القرون من قبلكم، يا معشر قريش أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة وشرف الممات، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، ألا إنى أوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين فى قريش والصادق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به».
لو قرأت هذه الكلمات دون أن تعرف صاحبها لأدركت حكمته وعقله ورجولته، فخلاصات الحياة تدور حول هذه الكلمات الرائعة، لن تصدق أن هذه الكلمات هى الوصية الختامية لأبى طالب قبل موته.
إذا قرأت هذه الكلمات أدركت عمق الحكمة التى ورثها الإمام على بن أبى طالب من أبيه، ولعل سائلاً يتساءل: إذا كان أبوطالب يؤمن بصدق محمد (صلى الله عليه وسلم) ورسالته فلماذا لم يؤمن به؟!.
هذا السؤال أجاب عنه أبوطالب قبل موته بقوله «لقد جاءنا محمد بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، ولو كان فى العمر بقية لكففت عنه ولدفعت عنه الدواهى».
هذه الكلمات الرائعة لا يستطيع قولها أى حكيم أو متدين فى عصرنا، فلم يكتف «أبوطالب» بنصيحة قومه ولكنه اختص أسرته قائلاً: «وأنتم يا معشر بنى هاشم، أجيبوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا».
على بن أبى طالب هو الذى ورث عن أبيه الحكمة والعقل والرجولة والشهامة، لقد رفض «أبوطالب» بحكمته أن يُغضب قومه من جهة أو أن يتخلى عن الرسول وخاف أن يسلم فينال الرسول من الأذى أضعاف أضعاف ما كان.
لقد آثر أن يصنع معادلة عجيبة يكون مع المشركين فى دينهم ليدفع عن الرسول الأذى، فأقوى دفاع عن شخص أن تدافع عنه وأنت فى الجانب المضاد له لتحميه وتصد عنه هذا الجانب الشرس.
ولك أن تنصت لهذا الرجل الصلب ذى العزم الحديدى:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد فى التراب دفيناً
وقد أقر رسول الله بدور عمه العظيم فى حياته قائلاً: «ما نالت منى قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبوطالب»، وقال فى حزن من غاب نصيره بعد أن تجرأ القوم على مقامه الشريف «يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك».
لقد ترك «أبوطالب» أولاده يسلمون رغم خطورته عليهم فرحب بذلك وقال لابنه «على» الذى أخبره بإسلامه «أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه».
الحكمة لا تأتى من فراغ، والنبل والشهامة لا يأتيان لأولاد السفهاء والحمقى، وكل الصفات النبيلة التى تحلى بها الإمام على بن أبى طالب كأحد أعظم حوارىّ الرسول وكواحد من عباقرة الصحابة، أتت من أبيه «أبى طالب» تارة، ومن جده «عبدالمطلب» تارة أخرى، وهو الذى بلغ فى قريش والعرب جميعاً منزلة لم يبلغها أحد، وهو الذى استقبلت روحه الصافية الهتاف الروحانى الآمر عدة مرات: «احفر طيبة، احفر برة، احفر زمزم التى لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم»، فهتاف الخير لا يتنزل على قلوب ملؤها الشر، أما عشق صنائع المعروف فلا يؤتى إلا لمن اختصهم الله.
وقد كان «عبدالمطلب» مشهوراً بين العرب بأنه يطعم الناس فى السهل، والوحوش فى الجبال، ولن يهب الله شرف أن يكون «عبدالمطلب» جداً للنبى محمد ولعلى بن أبى طالب وجعفر الطيار الشهيد وابن عباس ترجمان القرآن، ووالداً لحمزة أسد الله وأسد رسوله، والعباس عبقرى السياسة، فالفضائل العظام لا تأتى صدفة، فالله يصطفى ويختار.
إذا أردت أن تعرف حقاً شخصية على بن أبى طالب فلك أن تطالع ذلك التوحيد والتوكل العظيم الذى كان يفيض به قلب عبدالمطلب «الجد» وهو يأخذ بحلقتى باب الكعبة ويناجى ربه قبل محاولة أبرهة وجيشه وأفياله الهجوم عليها:
اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
لقد رأى «عبدالمطلب» انتقام الله من «أبرهة» وجيشه، ليعيش بقلبه وجوارحه مع أعظم درس إيمانى يمكن أن يعاينه الإنسان، وهو أعظم وأقوى من الدرس الذى رآه موسى وبنى إسرائيل وهم يعاينون غرق فرعون وجنوده.
هكذا نشأ إمامنا الجليل «على بن أبى طالب» حوارىّ النبى بين ذكريات الجد ومآثره وصلابة الأب وحكمته، حتى إذا فارقهما تلقفته يد النبوة الحانية الرقيقة واحتضنه بيت النبوة أرقى بيوت الأرض قاطبة ليعيش النبوة من بداياتها حتى نهايتها، وليعيش فى قلب السكينة والحكمة والرحمة وآيات القرآن تتنزل فيكون أول مسلم تشرف أذنه بسماعها غضة طرية.
ميراث «على» هو مجموع مواريث بنى هاشم و«عبدالمطلب» الجد و«أبوطالب» الأب والأعمام العظام وقبلهم جميعاً ميراث ابن العم الكريم «محمد بن عبدالله» صلى الله عليه وسلم، الذى كفله وهو صغير، وهؤلاء جميعاً حماة الفضيلة وصناع الخير وسدنة المعروف، ومنهم جميعاً ورث «الإمام على» كل القيم النبيلة التى زينت حياته وأضاءت الكون وعلمت البشرية.
«الإمام على» فريد فى كل شىء، فى ولادته، واستشهاده الذى كان فى المسجد أثناء الصلاة، وفى نشأته فى بيت النبوة وعلمه وقضائه.
سلام عليك يا إمام، يا من شرفتنى بالكتابة عنك، وسرت بركاتك فى نفسى وقلمى ففاضت مشاعرى بمدحك، وسمحت لأمثالى من العصاة أن يغترفوا من فيض أنوارك ويقتطفوا شيئاً من زهورك وعطرك لينثروها بين الناس فى زمن غلب عليه الجهل والحمق والجبن والبخل، سلام عليك يا سيدى من قلب أحبك وفاض حبك على قلمه فكتب هذه السطور.