فى سابقة مثيرة خرج علينا وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون، قبل يومين، ليبشر الدول العربية الأربع المقاطعة للدوحة بأن الأخيرة بدأت تدرس بحذر المطالب الثلاثة عشر التى تقدمت بها الدول المقاطعة، داعياً الجميع إلى الجلوس معاً وعدم التصعيد. وهى المرة الأولى التى يبدو فيها وزير الخارجية الأمريكى أقرب إلى أن يكون متحدثاً رسمياً باسم قطر، وهى بلد عربى مقارنة بإسرائيل التى يتحدث كافة المسئولين الأمريكيين باسمها ويدافعون عنها باعتبار أن العلاقات بين البلدين أكبر كثيراً من أى علاقات تحالف تجمع بين واشنطن وأى عاصمة أخرى فى العالم. الموقف الأمريكى المُنحاز لقطر، رغم علم كافة الإدارات الأمريكية، بما فيها إدارة الرئيس الحالى «ترامب»، بأن الدوحة من أهم الممولين على مستوى العالم لجماعات الإرهاب فى سوريا ومصر وليبيا وفى العديد من دول العالم، وأنها أكبر مشترٍ للسلاح الأمريكى الذى تم تدريب الجيش السورى الحر المُعارض عليه فى دولتين مجاورتين لسوريا، وأن بيانات وزارة الخزانة الأمريكية منذ أربع سنوات وأثناء إدارة «أوباما» الثانية تحدثت بالتفصيل والأدلة عن أن قطر مَوّلت عدداً كبيراً من الجماعات المسلحة فى سوريا، وأن هذا التمويل يتصادم مع القوانين الأمريكية ويتطلب رداً، ولكنه لم يحدث.
موقف السيد تيلرسون الذى أشار أيضاً إلى أن بعض المطالب المُقدمة لقطر صعبة التطبيق، وكأنه يقول إنه يكفى على الدوحة أن تلتزم ببعض المطالب ولا تعطى أى اهتمام لباقى المطالب، فإنه يعبر بصدق عن موقف الرئيس ترامب الذى غرّد عدة تغريدات تراوحت بين مطالبة قطر بوقف تمويل الجماعات الإرهابية، هكذا على العموم ودون تفصيل، تطبيقاً للقرارات التى انتهت إليها قمة الرياض، ثم عاد يطرح إمكانية أن تقوم واشنطن بوساطة بين الدوحة والعواصم العربية المقاطعة لها، ثم وصف الأمر لاحقاً بأنه أزمة عائلية تُحل فى إطار البيت الخليجى. وهكذا تبدو إدارة الرئيس ترامب والمهتمة أكثر ببيع صفقات السلاح بأنواعه المختلفة بعيدة عن التفكير فى ممارسة سلوك قيادى عالمى يقدم نموذجاً فعالاً فى وقف الإرهاب وتمويله والتحريض عليه، كما تبرع فى ذلك قطر.
مثل هذه المواقف الأمريكية تتناقض تماماً مع فكرة أن الأولوية لدى واشنطن الآن هى القضاء على تنظيمات الإرهاب قضاءً مبرماً، ومُعاقبة كل من يدعمها وصولاً إلى هزيمتها، وإنهاء حالة الشك الدولى التى تنغص على العالم كله أمنه وأمانه وتجعله يتصرف دائماً باعتباره مُحاطاً بالتهديدات والانفجارات، وبما يعوق الانطلاق فى القضايا الأخرى التى تتطلب تركيزاً أكبر فى مجالات التنمية الدولية والحفاظ على البيئة وتعزيز ثقافة الاختلاف والتسامح داخل المجتمعات وفيما بينها، وإصلاح المؤسسات الدولية السياسية والمالية وبما يتناسب مع الحقائق الجديدة فى العالم المعاصر.
لقد كُتب الكثير عن تخبط إدارة «ترامب»، وعن عدم تحركها وفق رؤية استراتيجية واضحة ومتماسكة وليس مجرد تغريدات تصدر بنت اللحظة، وتعبر عن انفعال شخصى بالحدث، وليست تعبيراً عن سياسة دولة عظمى بحجم أمريكا. وهو تخبط من شأنه إرباك الأصدقاء والحلفاء ودفعهم إلى الابتعاد عن واشنطن والبحث عن حلفاء وأصدقاء آخرين حتى ولو كانوا أقل تأثيراً ونفوذاً فى الشئون الدولية المختلفة. والواضح من أزمة قطر أن تحركاتها تهدف إلى استهلاك الوقت وافتعال معارك سياسية فرعية وبالتالى التملص من الالتزام بالشروط الثلاثة عشر، التى سبق أن وافقت على أغلبها الدوحة كتابة فى العامين 2013 و2014 لإنهاء الخلاف بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجى التى كانت قد سحبت سفراءها مطلع العام 2014. وبمقارنة المطالب الجديدة بما تعهدت الدوحة بالالتزام به ولم تنفذه، نجد أن الجديد ينحصر فى ثلاثة أمور تتعلق بإغلاق القاعدة العسكرية التركية، وبتحجيم العلاقات المتصاعدة مع إيران، والالتزام بالضوابط التى يقرها مجلس التعاون بشأن منظمات الإرهاب ومواجهته، فضلاً عن الخضوع لآلية مراقبة تستمر بعض الوقت لضمان التطبيق الفعلى بلا مناورات أو خداع.
ومع افتراض أن المواقف الأمريكية المتساهلة والرافضة ممارسة أى نوع من الضغط على قطر نابعة من حسن نية واشنطن فى إنهاء أزمة بين أشقاء فى بيت واحد، والحيلولة دون وصول تلك الأزمة إلى نوع من الانشقاق الدائم بين هؤلاء الأشقاء، فإن هذا التساهل الأقرب إلى الانحياز الفعلى للشقيق المتمرد والساعى إلى التملص من أية التزامات لمكافحة الإرهاب عملياً، يؤدى فى النهاية إلى تعقيد الأزمة وليس حلها، والتعقيد هنا سيؤدى عملياً إلى ارتماء قطر أكثر وأكثر فى الأحضان الإيرانية، وهو أمر يتناقض مع الشعارات والتصريحات التى قالها الرئيس ترامب مرات لا تُعد، وتصب فى أن إيران تمثل مشكلة أمنية كبرى وعائقاً استراتيجياً أمام المصالح الأمريكية يتطلب مواجهتها بكل قوة وفى أكثر من موقع. وبينما يدعو التفكير الرشيد إلى دعوة الدوحة للتوقف فوراً عن فتح كافة الأبواب لنفوذ إيرانى عسكرى على الأرض القطرية يتصادم مباشرة مع أمن قاعدة العيديد الأمريكية فى قطر، فإننا نجد موقفاً عكسياً لا مبرر له، وكأن المخططين الاستراتيجيين فى واشنطن لا يدركون الخطورة القصوى لما تفعله قطر، وهذا شىء مؤسف ولا يمكن القبول به أو الاقتناع أنه حادث بالفعل. أو أنهم يدركون ولكنهم غير قادرين على إقناع الرئيس باستنتاجاتهم المتعلقة بحماية المصالح الأمريكية العليا، ومن ضمنها أمن الجنود الأمريكيين فى أى بقعة فى العالم. والحالة الثانية تعنى ببساطة أن هناك قنوات مُغلقة بين قمة البيت الأبيض وأجهزة التحليل وتقدير المواقف الاستراتيجية، وهى حالة تعجّل بفشل جسيم فى الكثير من القضايا التى على الولايات المتحدة التعرّض لها بحسم.
التناقضات الأمريكية على هذا النحو تتطلب من الدول الأربع المُقاطعة لقطر عدم انتظار أى تحرك أمريكى يقود قطر أو يساعدها على تعديل سلوكها وتغيير منهجها السياسى الخطير، ولا بأس من أن يكون هناك، من قبيل إبراء الذمة أمام التاريخ، تحرك جماعى لوزراء خارجية الدول العربية الأربع نحو واشنطن من أجل مزيد من الشرح والإقناع بأن مصلحة أمريكا الكبرى تكمن فى استعادة قطر أن تكون بلداً طبيعياً وراشداً، يواجه الإرهاب لا أن يغذيه وينشر ثقافته وخرابه فى كل مكان، إذ الدور سيأتى حتماً على الأراضى الأمريكية، إن أغمضت إدارة «ترامب» عيونها عن أفعال الدوحة الشنيعة بحق أشقائها العرب.