أوشك جيش الإمام على بن أبى طالب أن يحسم المعركة بالنصر النهائى على جيش معاوية والشام، وحسم هذه الفتنة غير المسبوقة فى تاريخ الإسلام، ولكن دهاء عمرو بن العاص دلّ معاوية على حيلة خطيرة فقال له: «لقد أعددت بحيلتى أمراً ادخرته لهذا اليوم، ترفع المصاحف وتدعو إلى تحكيم القرآن، فإن قبلوا التحكيم اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا أيضاً».
كان عمرو ومعاوية يعرفان جيش الإمام جيداً وأنه يغلب عليه الفقهاء والقراء الذين يمكن أن تنطلى عليهم الحيلة المؤثرة دينياً، كما تأثر الكثيرون من قبل برفع قميص عثمان وعليه الدماء والطواف به فى الأقاليم، وفيه شباب متحمس ضد التحكيم سيصبح معادياً للإمام.
أدرك الإمام أنها خدعة وحذّر أتباعه منها فقال: «أنا أحق من يجيب إلى كتاب الله، ولكنى أعرف بهم منكم، إنها كلمة حق يراد بها باطل».. ولكن أتباعه عارضوه، وانخدع أكثرهم بذلك، رغم أن الأشتر كاد أن يحسم المعركة ولكن الأتباع أجبروا الإمام على قبول التحكيم فرضى به صاغراً.
قبول التحكيم أو رفضه كان سيُحدث شرخاً فى جيش الإمام، فبمجرد قبوله للتحكيم بدأ بعض الشباب المتحمس يخرج من جيشه ناقماً ثم مكفراً للإمام، وبدأوا يذهبون للأقاليم يخلعون بيعته ويكفّرونه ويجمعون الأعوان ضده.
انتبه الكثيرون لذلك وهم خارجون من الجيش، فنصحوا الإمام أن يقاتلهم قبل أن يتجمعوا ضده فى جيش لا يقدر عليه، أبى أن يقاتلهم حتى يقاتلوه أو يحاسبهم على كلمات أو نوايا، كان عادلاً معهم، ومحسناً إليهم، ولكنهم ظلموه كما ظلموا الجميع.
بعد التكفير سيأتى التفجير لا محالة، وسيأتى الاغتيال، هذه سنّة مطردة فى فكر التكفير.
المحن تلاحق الإمام من كل مكان، إن رفض التحكيم غضب الفقهاء والعلماء، وإن قبله كفّره الخوارج وحاربوه، كُتب عليه أن يقاتل على جبهتين، جيش معاوية بالشام وجيش الخوارج.
كان يريد عبدالله بن عباس حكماً من عنده، ولكن أصحابه فرضوا عليه أبا موسى الأشعرى الذى خدعه عمرو بن العاص بمنتهى السهولة.
التكفيريون لا يصبرون كثيراً، فسريعاً ما يريقون دماء الصالحين والمسلمين، ناقش الإمام زعيمهم فهزمه بالحجة وبضربات العلم والفقه القاضية.
كانت حجة الخوارج ساذجة، كانوا شباباً متحمسين بغير علم ولا عقل ولا خبرة حياتية ولا فهم للحياة، هم دائماً هكذا فى كل العصور، يتمسكون بظاهر الآيات وقشور الأقوال وينزعون الآيات والأحاديث وأقوال العلماء من سياقاتها ويمزقون النصوص تمزيقاً، يتنكرون لأعلام الأمة بدءاً من على بن أبى طالب وحتى أصغر عالم.
صاحوا صيحتهم: «لا حكم إلا لله وإن كره المشركون». أرسل إليهم عبدالله بن عباس ليقرع حججهم، نازلهم فكرياً منازلة شريفة عميقة، هزمهم فى معسكرهم وبين قادتهم هزيمة فكرية مدوية، فعاد معه ستة آلاف منهم، بدأت القرى والبلدان تستغيث بالإمام من ظلم وبغى الخوارج، طالبين ألا يذهب للشام قبل أن يخلصهم من شرهم.
فقَد الإمام كل أمل فى هداية الخوارج حينما بلغه نبأ مقتل عبدالله ابن الصحابى الجليل خباب بن الأرت وزوجته، حيث لقيهما الخوارج فى طريق سفرهما فاعتقلوهما وسألوهما عن بعض الأحاديث النبوية التى رواها والده فاختار لهم حديثاً رائعاً يدل على فقهه وهو قول النبى: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشى، والماشى خير من الساعى»، فسألوه عن الإمام فأثنى عليه ومدحه فقرروا قتله لأنه لم يكفره.
اختبار الناس وتصنيفهم فى حالات الصراع السياسى تكرر عبر التاريخ، والإقبال عليهم والإدبار عنهم بناء على ذلك أو تكفيرهم وتفسيقهم بناء على ذلك، وكل صراع سياسى أو عسكرى بين المسلمين ستخرج من خلاله طائفة تكفّر الفريقين وتستبيح دماءهم.
ما إن نطق عبدالله بمدح الإمام بما هو أهل له حتى قام هؤلاء الشباب بذبحه، لم يفكروا لحظة فى مكانته كتابعى أو مكانة والده كصحابى، فكر التكفير يلغى العقول ويطمس الرحمة من القلوب، اتجهوا نحو زوجته، ناشدتهم وهى تصرخ: «إنى حبلى فاتقوا الله فىّ»، ولكنهم لم يرحموها، فذبحوها وبقروا بطنها، فالتكفيرى غليظ القلب أجوف دائماً، لقد طهر الله الإمام من صحبتهم فخرجوا من جيشه، وأكرمه بحربهم وإبادتهم.