«جالك أوان ووقفت موقف وجود.. يا تجود بده يا قلبى يا بده تجود». كلمات نسجها المبدع «صلاح جاهين» تمثل إعادة صياغة للسؤال الشكسبيرى الأشهر: «أكون أو لا أكون»، ليعبر بها عن حال الإنسان الذى تقذف به الظروف فى رحم «موقف وجودى». دعونا نضرب مثلاً على ذلك من تاريخنا القريب، ونسترجع تلك اللحظة التى نزل فيها المصريون إلى الشوارع يومى 9 و10 يونيو 1967 ليطالبوا جمال عبدالناصر بالاستمرار فى الحكم بعد الهزيمة. لم يكن أى من الطرفين مقتنعاً بالحال التى وصلنا إليها وألقت بنا فى رحم هذه المحنة. عبدالناصر والشعب فى تلك اللحظة كانا يتحركان بمنطق أننا نعيش موقفاً وجودياً يفرض تحركاً جدياً لتغييره، لم يكن السؤال وقتها كيف نزل الناس لمطالبة قائد مهزوم بالاستمرار، أو كيف حدث ما حدث؟. كانت هناك فكرة أساسية تسيطر على الجميع «لا بد لهذا الوضع من تغيير».
عبدالناصر ومعه الشعب عاشا هذا الموقف الوجودى، فتحرك الجميع فى اتجاه حرب الاستنزاف، وعندما أتيحت مبادرة روجرز كحل سلمى للعودة إلى ما قبل حدود 1967 لم يرفضها عبدالناصر، وهو الذى كان يرفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لأن الموقف كان لا بد أن يتغير وتعود الأرض. مات عبدالناصر أواخر عام 1970، ومن بعده وصف «السادات» الموقف الذى تركه فيه عبدالناصر بأنه مثل من ربط أرجل إنسان فى قضبان قطار ثم قال له سر!. عاش الرئيس «السادات» موقفاً وجودياً بامتياز، لم يكن أمامه فيه إلا أن يخوض الحرب، ثلاث سنوات كاملة كانت المظاهرات تندلع فى الشوارع مطالبة الرئيس بالحرب، والرئيس يعد بالحسم، حتى قرر اتخاذ الخطوة بعد أن أصبح ظهره إلى الحائط فى أكتوبر 1973، وواصل «السادات» رحلة استعادة الأرض من خلال التفاوض مع الإسرائيليين. اغتيل «السادات» -كما تعلم- عام 1981، وتولى الحكم حسنى مبارك. وقد كان هذا الرجل استثناءً بين سابقيه، فلم يعِش ما عاشه عبدالناصر أو السادات أو حتى محمد نجيب، فقد مرت سنوات حكمه الثلاثون دون مواجهة أى مواقف وجودية. الموقف الوجودى الذى عاشه «مبارك» كان فى 25 يناير، وقد خسر يومها خسراناً مبيناً.
ستسألنى وماذا عن الآن؟
دعنى أقُل لك إننا نحيا هذه الأيام موقفاً وجودياً شديد الخطورة، فيما يتعلق بموضوع سد النهضة الإثيوبى. فلو صح ما يخرج من إثيوبيا من معلومات تقول إنها سوف تبدأ خلال وقت قريب رحلة ملء السد، وأنها مصرة على ملئه فى 3 سنوات، وإذا صح ما يتوقعه الخبراء من تأثيرات شديدة الخطورة على حصة مصر من مياه النيل وانحسار التربة الزراعية لدينا بفعل التبوير جراء نقص المياه. إذا صح هذا الكلام، فاعلم أننا سنكون بصدد موقف وجودى أخطر بكثير من مواقف تاريخية سابقة عاشها هذا الشعب. الكل سيكون محل سؤال، وسيكون موضع مسئولية، لكن فى كل الأحوال علينا أن نختار ما بين الرضاء بـ«المقسوم الإثيوبى» وتدبير أمورنا طبقاً لما يتفضل به الأحباش علينا أو نخوض معركتنا.