الزبالون فى رمضان: صدقات جارية من المارة وإسراف البيوت يعود عليهم بالنفع
نور الفجر يلوح فى الأفق، تختفى ظلمة الليل، شديدة السواد، يحتل مكانها ضياء النهار تدريجياً، تبدأ ساعات صيام يوم جديد من ثلاثينية رمضان، تلال القمامة المتراكمة تفترش جانبى شارع بورسعيد، بالقاهرة، ينكب الرجل الطاعن فى العمر فتحى السيد على مقدمتها، تاركاً يده تغوص بين ثناياها، محاولاً التنقيب عن شىء ما، مستخدماً أنامله الضعيفة لفرز كل ما يعثر عليه، يصول ويجول على أطراف مقلب الزبالة التابعة لشركة «أرما العرب» بمنطقة «القصيرين»، يتفحص بعينيه كل مخلفاته، يجمع من بينها الخردة وكسرات الخبز الناشف، الشكائر البلاستيكية، فلاتر السيارات، غيرها من المخلفات وفضلات الطعام التى يتمكّن من استبدالها بقليل من المال، ليُنهى المرحلة الأولى من عمله قبل أذان الظهر، يركن إلى حائط يستظل بظله من أشعة الشمس، يستلقى بظهره على الجدران، فى انتظار التروسيكل لنقل ما تم فرزه إلى التجار.
سيارة فارهة سوداء اللون يقف قائدها، يسحب زجاج بابها إلى أسفل، منادياً بصوت خافت متبوع بـ«كلاكس»، يلتفت 3 من عمال الزبالة، يتسابقون فى الوصول إلى السيارة، يعطى كلاً منهم 10 جنيهات، لتتغير ملامح وجوههم العابثة التى يكسوها الغبار إلى الفرحة والابتسامة الخفيفة، التى عبّر عنها عم فتحى «شهر رمضان ده الخير فيه كتير، وربنا بيكرمنا بأهل الخير، الفلوس بيكون فيها بركة، ممكن ربنا يرزقنا بثلاثة أو أربعة من أهل الخير فى يوم واحد، يعنى ممكن أروح آخر النهار فى جيبى 50 أو 60 جنيه، على عكس باقى شهور السنة التى لا نحصل فيها إلا على الـ20 جنيه بتاعة الشغل».[SecondImage]
صوت «كلاكس» التروسيكل، يعلن عن قدومه من بعيد، ينهض الرجل الستينى من جلوسه، ويبدأ فى عملية نقل المخلفات التى انتهى من فرزها، فى الصندوق الملحق بالدرّاجة النارية، يقدّرها الشاب الثلاثينى، الذى يتولى فحصها أثناء عملية النقل، بثمن بخس -كما يقول عم فتحى- يتراوح من 10 إلى 20 جنيهاً تزيد أو تنقص حسب حالة ونوعية ما يجده بين أكوام القمامة.
ويتولى سائق التروسيكل محمود فهمى بيعها إلى تاجر الخردة وجامعى العيش الناشف أو البلاستيك، حسب نوعية المخلفات التى يحصل عليها من جامعى القمامة، مقابل نسبة يحصل عليها، يقدّرها هو بـ25 جنيهاً فى اليوم تقريباً بعد خصم ثمن الوقود منها.
يختار «فتحى» ذو 67 عاماً وقت البكور للعمل، لسببين كما يروى، الأول أن يحصل على «الكريمة» فى إشارة إلى أكوام الزبالة الجديدة التى لم تصل إليها يد أقرانه من جامعى القمامة، لأنها تكون عامرة بالخير كله، خصوصاً فى شهر رمضان الكريم على حد تعبيره، مبرراً ذلك بأن مخلفات الطعام تكون أكثر، وبكميات كبيرة ونتيجة استهلاك البيوت الكبير فى هذا الشهر الكريم، والسبب الثانى حتى يتمكن من جمع أكبر قدر ممكن قبل وصول التروسيكل، وهروباً من ارتفاع درجة الحرارة فى الظهيرة، التى لا يستطيع تحمُّلها بسبب الصيام.
«كنت باجمع الزبالة على تروسيكل فى الأول، لكن دلوقتى ما باقدرشى أحرك التروسيكل وهو محمل بالزبالة زى زمان، أنا كبرت خلاص، بس أعمل إيه، فى رقبتى كوم لحم، مراتى و7 أولاد، ربنا كرمنى وجوزت منهم 4 بنات وستّرتهم، ولسه معايا بنتين وولد».. هكذا تحدث من أثقل كاهله الزمان، موضحاً أنه لجأ إلى جمع القمامة، لأنه لم يجد غيرها، منذ قدومه من محافظة الفيوم قبل 10 سنوات، بسبب قلة الحيلة وعجزه عن توفير مصدر دخل لأسرته، متوقعاً أن يجد فى القاهرة فرصة عمل يقتات منها هو وأسرته، ليستقر به الحال فى النهاية إلى العمل فى جمع القمامة وفرزها.
فى عزبة أبوحشيش، بالقرب من مزلقان القطار يقيم عم فتحى فى شقة صغيرة، تتكون من غرفتين وحمام ومطبخ، يدفع لها إيجاراً شهرياً 200 جنيه، يسعى جاهداً لأن يوفرها قبل كل شىء، حتى لا يُطرد منها، تأتى المصروفات الدراسية الخاصة بابنه أحمد الطالب بالصف الأول الإعدادى فى المكانة الثانية بعد إيجار الشقة، مضيفاً أن إدارة المدرسة أحياناً تعفى ابنه من المصروفات المدرسية، وأخرى تصر على دفع هذه المصروفات.[ThirdImage]
محمود فهمى، سائق التروسيكل المقيم بعزبة الزبالين بمنشية ناصر، الذى ورث المهنة عن والده، ويعمل بها مع أشقائه الأربعة منذ نعومة أظافره، يخرج يومياً لفرز الزبالة وتجميع الخردة والبلاستيك، وبعد الانتهاء منها يقوم بالمرور على عم فتحى ليشترى منه الخردة التى جمعها، وعدد آخر من الزبالين لا يوجد معهم تروسيكل لنقل الزبالة ويشتريها منهم، ثم يقوم هو ببيعها مرة ثانية لتجار، قائلاً: «رمضان يعتبر موسم لنا وربنا بيرضينا فيه، والكلل بيُرزق».
الأتربة وآلام الذراعين واحمرار العين، هى أهم المشكلات التى يعانى منها العاملون فى عملية فرز القمامة وتجميعها، خصوصاً مع كبار السن كما يروى «فتحى» أن هذه الآلام تظهر فى سواد الليل وتؤرق نومه، حيث لا يستطيع أن يُغمض جفن عينيه من كثرة الأتربة، دون استخدام قطرة طبية، وآلام الذراع لا تتوقف، لكن كل ذلك يهون فى مقابل توفير مصروف البيت، وجلوس أفراد الأسرة معاً على الإفطار ساعة أذان المغرب، متمنياً أن يكون العام كله رمضان.