«هناك أيام فارقة فى حياة الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. ترى هل نمر ببعض منها أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت»..
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس، ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر.. ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها.. لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة قبيح غالباً.. متجمل فى بعضها.. برىء فى قليل منها.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى السؤال ذاته ملحاً.. هى ثورة ولّا مؤامرة؟.. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عصى على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة..
لم يكن لى شرف نيل (شلوت) أو (بوكس) أو حتى خبطة على الرأس قد تسبب ارتجاجاً فى المخ من أحد جنود الأمن المركزى البواسل..... أو نيل خير لقب فى الدنيا والآخرة بأن أصبح وردة من الورد اللى فتح فى جناين مصر (كما قال عم أحمد فؤاد نجم).. حتى لو كان ذلك بطلقة غدر مجهولة (اشترك فى تسديدها أعداء الداخل والخارج) صوبت بدقة إلى قلب وطن لتصيبه فى الصميم. ولكننى رأيت الجرحى والمصابين بالرصاصات المطاطية فى كل مكان وقد تَفنن صانعوها حتى لا تكتفى بجرح واحد فقط بل تترك عدة جروح ربما سطحية ولكن الجرح الأكبر كان هناك غائراً فى القلب.
ثم يسقط ظرف رصاصة خاوٍ كُتب عليه «صنع فى أمريكا»..
أما المضحك حتى البكاء فى كوميديا النظام السوداء فهو أن تلك القنابل والرصاصات الموجهة لوطن ينزف كان بعضها منتهى الصلاحية!!
فهل هذا يعنى أنها ستؤدى إلى ضرر أكبر.. أم ستفقد جزءاً من فاعليتها للأسف (من وجهة نظر صانعها) لتؤدى إلى ضرر أقل..!! ربما -مثلاً- تفقد مطاطيتها؟!
وسواء أكانت منتهية الصلاحية أم لا فقد كتبت فى ساعات قليلة -لكنها ملعونة- شهادة ميلاد عدة آلاف كفيف من زهرة شبابنا.
ناهيك عن رائحة فساد تمتزج برائحة البارود المتصاعد من تلك الرصاصات قد تكون أكثر نتانة من رائحة البارود ذاته.
أثناء تسجيل بعض الأحداث فى دفترى حتى لا أنسى التفاصيل اقترب منى شاب صغير ليسألنى:
- أنتِ صحفية؟
فابتسمت وأنا أجيبه:
- تقريباً.
فإذا به يرينى صورة لشاب فى مثل عمره لم يتعدّ العشرين:
- صاحبى مات.
وتحشرج صوته وبدأ ينهنه كالأطفال وهو يخبرنى أنه كان بجانبه يهتفون (سلمية.. سلمية)، وهو نداء يهتفون به كلما اقتربوا من رجال الشرطة أو الجيش.. فإذا بصديقه يسقط فجأة بجواره دون سبب. وعندما حاولوا مساعدته على النهوض وجدوا خط دماء يسيل من منتصف جبهته تماماً برصاصة حية لم يعرفوا مصدرها.. وقد فارق الحياة.. هكذا فى لحظات، وكل ما أقترفه فى حياته أنه حاول أن يعبر عن نفسه ربما لأول وآخر مرة.. وسألنى:
- إحنا جينا مع بعض.. إزاى أروح من غيره.. هذا الشاب اسمه أحمد موسى.
حدثنى أحد المشاركين عن ذلك الشاب الذى ظل بجواره يحاصره بأسئلة ساذجة تدل على حيرة المتلمس طريقه فى الظلام وقد وجد من يضىء له شمعة. كانت هذه أول مرة يشارك فى مظاهرات يوم موقعة الجمل. عندما أطلقت طلقات مجهولة من أسطح العمارات ضد شباب أعزل سأل فى براءة:
- مش معقول هيضربوا علينا نار بجد.. هم برضه فى الآخر مصريين... صح؟؟
- طبعاً.
وفى لحظات يسقط الشاب بطلقة غدر فى صدره ليحمله الجميع إلى المستشفى الميدانى حيث يبدأ موكب الملائكة.
وفى لحظات الوداع الأخيرة وبينما تتراخى الأصابع مستسلمة لقدرها الجميل نظر نظرة لن ينساها محدثى أبداً وسأله سؤالاً أخيراً.. أجاب عليه وهو يشد على يديه:
- أكيد.. اطمئن.
ربما لم تمهله الملائكة وفضلت أن تقوم هى بمهمة الرد:
- إحنا صح... مش كده؟!
وللحديث بقية.