(هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب.. أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها أم تُراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت..)
تلك كانت أول كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس.. ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر.. ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها.. لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة.. قبيح غالباً.. متجمل فى بعضها.. برىء فى قليل منها.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى السؤال ذاته ملحاً: هى ثورة ولا مؤامرة؟.. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نُشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عصىّ على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
من هنا ورايح هأصلى
كأشياء كثيرة لا تعرف لها أباً شرعياً حدث انتقاء بعقل جمعى لزاوية صلاة أهلية أنشأها أصحاب محلات الدش والإلكترونيات التى أصبحت المنطقة سوقاً لها بشارع الأمير قدادار خلف ميدان التحرير من ناحية باب اللوق.
وفى لا وقت وبمنطق خلية النحل تبدل المكان تماماً.
- أرفف الكتب وكذلك أحذية المصلين أصبحت صيدلية تحوى معظم أنواع الأدوية بدءاً من المضادات الحيوية. وحتى جبائر الكسور.
- فى منتصف المكان هناك جهاز تعقيم (أوتوكلاف) وهو شىء لا بد منه لتعقيم الأدوات الطبية.
- وعلى الجانب الأيمن مخزن يكتظ بأنواع مختلفة من الأطعمة على بساطتها.. وكل بضع دقائق تجد كيساً من السندويتشات والبسكويت أو العصير يحمله رجل رقيق الحال أو شاب صغير تبرعاً منه، ثم يسأل بصدق:
- عايزين إيه تانى؟
وكأنهم كافأوه بطلب إحضار شىء ما (مهما يكُن).. يجرى فرحاً لإحضاره بحماس.
- أما باقى الخلية فقد امتلأت بشغالة النحل ولكنهم يرتدون معاطف بيضاء يقودهم (د.عمرو) طبيب بأحد مستشفيات وزارة الصحة.. وبنفس منطق خلية النحل تجد لكل مجموعة مهمة خاصة.. ليقوموا بكل الإسعافات المطلوبة بكفاءة واجتهاد كلٌ فى تخصصه.
هذا بالإضافة إلى عدة نقاط إسعاف سريعة عند مداخل الميدان أكبرها من ناحية المتحف بعد موقعة الجمل.
من هنا ورايح هأصلى.. قالها لى أحمد أحد نزلاء المستشفى الميدانى وهو يتلقى العلاج من كسور وكدمات مرعبة.
لم أكن أتصور أن اندفاع المياه يمكن أن يؤدى إلى كل هذه الجروح... و.. الجراح.. والحكاية أن أحمد الذى لم يكن من الملتزمين فى الصلاة أو بالأحرى لم يكن يصلى ولا حتى الجمعة، لكنه كان واقفاً بالصدفة يصنع سياجاً مع إخوته المسيحيين حول من يصلون عند كوبرى قصر النيل (وبغض النظر عن نظرية المتاجرة بالدين والتى لا يجب أن تضعف حماسنا واحترامنا لطقوس الدين ولكل من يمارسه فنحن لم نفتح صدره لنعرف ما بقلبه وعلى الله ما بخلده) وإذا بمدافع مياه تُطلق بضراوة، لتدفع المصلّين ومن حولهم فيسقطوا، لكنهم ينهضون بسرعة لاستكمال صلاتهم فيقعون ويقومون مرات ومرات دون أن يحد ذلك من عزيمتهم لإكمال صلاتهم على الرغم من الإصابات البالغة.. ليجد أحمد نفسه يتيمم بسرعة مستعيناً برذاذ المياه المندفع ويصطف بجانبهم يصلّى فى مواجهة المدافع ويكون له نصيب كبير من الإصابات وربما من الحسنات أيضاً.. ليردد فى إصرار.. من هنا ورايح هأصلى.. وللحديث بقية.