أول الطعام الذى عرفه الإنسان، كان فاكهة الجنة والتفاحة الشهيرة التى أخرجتنا منها، طَعِمْناها عِشقاً وشراهة وما زلنا نتجشأ إثمها وإثمنا إلى يومنا.
استمرت البشرية، وتوالت أيامها، وما توقف بنو آدم عن حب الطعام واشتهائه، بل طوروه وحَدّثوا به دوماً، خصوصاً عند بداية اكتشاف النار وتأثيرها الشهى المَرى.
ثم اكتُشفت التوابل وبدأ الإنسان يصنع لأطباقه طعماً ومذاقاً وشكلاً آخر، واستمر التحديث والابتكار بالطعام عبر العصور على اتساع العالم، فأصبح لكل شعب ومنطقة طعامهم الخاص ونكهاتهم المميّزة والمستمدة من بيئاتهم، سواء من حيث نوع الثروات الحيوانية أو المحاصيل الزراعية التى يمتازون بها، أو من حيث تطبيق طريقتهم الخاصة فى إعداد الطعام وإنضاجه، فمن الشعوب من اخترع الأفران، ومنهم من دفن الشواء وأنضجه تحت الرمال، ومنهم من أغْرَته شرارات النار المباشرة، فألقى بطعامه عليها، ليأخذ من روحها ورائحتها ما يُشبع ويروى أوردته ومعدته.
هكذا أصبح لكل بلد أو إقليم أو منطقة قائمة طعامها الخاص، الذى يحمل من تاريخها وثقافتها ويُخبر الكثير عن مشاعرها وطقوسها!! بل إن كثيراً من الشعوب تميّزت مناسباتها بأطعمة معينة، خصوصاً فى شرقنا الأوسط.
فى الماضى، وخلال أوائل الألفية الأخيرة، بدأ العالم يُسجل وصفات الطبخ ويفرد لها كتباً ومؤلفات، وأصبح للطبخ أساتذة ومعلمون وفقهاء، يجربون الجديد ويصفونه لمن يجهل هذا الفن العظيم، ووصل عصرنا الحديث إلى برامج طبخ عالمية ومحلية ومسابقات دولية وطهاة برتبة نجوم، بل إن أثمانهم تعلوا بعض النجوم أحياناً!! وتحول الطعام وإعداده إلى فن ومدارس ومعاهد وسياحة وتجارة مربحة وشهرة ومجد!! فكما أن العالم يغنى، أصبح يطبخ أيضاً!! بذات البهجة والحماسة والتألق.
ورغم أن الطعام شأن حسى بحت، مرتبط بغريزة الجوع، فإن هناك بشراً يحولون كل ما هو حسى مادى صِرْفْ إلى روحانى راقٍ، محلق فى عالم الخيال والآمال والجمال، هؤلاء جعلوا للطعام والطبخ فلسفة، تعاملوا مع التوابل ومكسبات الطعم كأنها تعاويذ تضاف إلى الأطعمة لتعطيها مسحة من سحر وغموض وتأثيرات خفية. تداعب المشاعر وتُدغدغ الشعور. تعاملوا مع الكيف لا الكم، مع المذاق الخاص، المميز والمؤثر.
دوماً ما نوقِشَ موضوع تأثير الطعام على الأمزجة والأدمغة والقلوب والمشاعر، ويتردّد مثلنا العربى الأشهر «أن الطريق إلى قلب الرجل معدته!!»، وما زال السؤال قائماً، هل الأمر صحيح أم أنه اتهام للرجل بالحسية والشراهة، وبأن مشاعره مفتاحها معدته!!
من ينكر تأثير الطعام على مزاج الإنسان هو مخطئ، خصوصاً الطعام اللذيذ الشهى المُعد بنظافة وعناية وترتيب واهتمام وفوق كل هذا بمحبة، فالطعام الذى يُعد بالحب من يد حنونة تجد سعادة بإسعاد غيرها وتجد متعة فى إمتاع الآخرين، من المؤكد أنه ليس كغيره من الطعام، لأن المكون الأصلى وقتها يكون (الحب)، ليُنتج حُباً بمذاقٍ لا يُقاوم ولا يضاهى.
لكن تُرى ما سر أن الوصفة الواحدة بالمقادير ذاتها تصدر مختلفة المذاق حسب الأيدى التى أعدتها!! رغم أن الطريقة واحدة، وهل هذا هو ما يُسمى بـ«النَفَس»!!! حسب تعبيرنا الدارج!! أظن أن معنى «النفس» هو ذاك البعد الفلسفى السابق عن الحب والتواصل الروحى مع الطعام ومكوناته، ومن سوف يتناوله، هو بصمة لا تتشابه بين يد وأخرى.
فن الطبخ خصوصية وعشق وغرام حقيقى، كما أن فن تناول الطعام وتذوقه والتمييز بين تفاصيله، فن آخر، له فنانوه وإخصائيوه، من ذوى الحساسية المفرطة، تكاد قلوبهم أن توجد على أطراف ألسنتهم، لتقع فى غرام أو زهد أنواع الطعام! ذات الألوان والمذاقات المختلفة. ودوماً ما كانت للطابخ والمطبوخ والمطبوخ لأجله بصم!!!!!