(فى قرية صغيرة هادئة تسكن فتاة تدعى مريم، بسيطة بشكل لا يوصف، تكاد بساطتها أن تكشف كل ما هو معقد مقارنة بها، حالمة حتى فى وقت الظهيرة، قوية كحد السيف فى تمسكها بمبادئها، رقيقة الملامح طاهرة الفكر، لا تعرف الخبث لأنها لم تتعلمه ولم تعتد عليه يوما، تتمنى الخير للجميع وتتحدث بلباقة مطلقة لكثرة ما قرأته من كتب وروايات ودواوين، حققت حلما من أحلامها واستطاعت أن تلتحق بكلية الحقوق لتصبح محامية ناجحة تدافع عن المظلومين بكل ما ملكت من قوة وذكاء.
بعد أن انتهت امتحاناتها جهزت أغراضها من السكن الجامعى فى المدينة التى كانت تسميها (مدينة السعادة)، وودعت صديقاتها بدموع صادقة حزينة واتجهت إلى القطار لتذهب إلى مسقط رأسها وتنعم بملذات المكوث إلى جوار عائلتها الصغيرة.
فى تمام الساعة السادسة وقت الغروب، الوقت الذى تعلن فيه الشمس عن موعد غيابها المؤقت لتشرق لنا فى صباح اليوم التالى، فتبعث فى أنفسنا العيش على أمل اللقاء بعد انتظار قصير، تضع مريم رأسها بجوار نافذة شبه مغلقة، عيناها الخضراوين اللتين نالتا من الطبيعة جمالها وسحر لونها تنظر إلى لا شىء، ولعلها ترى كل شىء يقع أمامها، بسرعة البرق يدور بخاطرها سؤالا "هل قرأ أدهم رسالتي؟).
"إلى الكاتب والشاعر المحبب إلى قلبى أدهم عبد الرحمن.. إليك أكتب بعد أن راودتنى الكثير من الأفكار، وبعد أن خاطبنى ضميري قائلا "ماذا ستفعل كلماتى بك!"، وجاءت كرامتي تلوح لى وتنادى بحروف اسمى فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل والجميع فى سبات عميق، إلا أن قلبى مازال مستيقظا قائلا لى لعل قلبه مع أخرى وأنتِ لن تكونى له سوى عبث أطاح بحياته على هيئة رسالة طويلة بعض الشىء، ولكنها فى النهاية عبث! وكانت نهاية هذه المعركة الدامية بداخلي أنى أمسكت قلمى وأوراقى وأشعلت نورا خافتا حتى لا يزعج صديقاتي، هذا النور الذى كان ونيسى وأنا أقرأ جميع مؤلفاتك العبقرية على مر ثلاث سنوات، أقرأها وكأننى بطلتها الوحيدة، فيا من كنت وما زلت مثلى الأعلى وكاتبى المفضل، وحب لا أعرف ما هى نهايته رغم أننى أتشوق وأذوب من الانتظار لمعرفتها، إنى أدعى للجميع مريم، ولك العابرة الغامضة، أتتذكر مقولتك فى كتابك الأخير "اختبر ما تريد وقتما تريد لكن لا تنسى أن تفعل ما تخشاه حتى لا يأتى يوما وتعتاد أن تخشى كل شىء، حتى تخضع وتظل طوال حياتك خاضعا!"
هذه الكلمات كانت دافعا لى لكتابة رسالتى الأولى إليك، أريد أن أقول إنى أحبك، فيا لها من كلمة ثقيلة عندما تقال وأنت لا تعرف كيف سيكون الرد عليها، لكننى لم أعد أبالى فأحبك وأحبك وأحبك، حتى يعلم الحب أنى أحببتك منذ أن تعلمت أصابعى كيف تقبل صفحات مؤلفاتك، ومنذ أن أجهدت عينى ليلا فى قراءة كلماتك، بعد أن أنهى مقرر كليتي التى تمتاز بصعوبتها فى سن القانون والعقوبات، أعلم أنك ستصاب بالذهول عند قراءة اعترافاتى إليك، ولكن ما أخشاه هو أن تترك رسالتى كورقة بيضاء جوانبها مليئة بالحبر فى منتصفها، وتغادر وكأنها لا تعنى لك شىء سوى أنها عبث سوف تتخلص منه فى أسرع وقت، وإن فعلت ذلك، أدعو الله ألا تجعل منى حلما زارك سريعا ورحل إلى أرضه الخيالية لأن الواقع ليس له.
مريم الحسينى
العبث الأول!"
(فى منزل كبير فى وسط المدينة يجلس الكاتب أدهم عبد الرحمن على كرسى محبب إلى نفسه، لأنه يهدأ من ثورة أعصابه فيحركه للأمام وللخلف فى غضب، يحيط به العقل والهدوء المستعار، وتوجد ورقة على مكتبه يحركها ببطء ذلك الهواء المنبعث من النافذة، قطع عليه تفكيره أعز صديق لديه وهو يسأله)
* أحمد: ماذا بك يا أدهم لقد اتصلت بك مرارا وتكرارا ولكنك لم تستجب.. هل أنت بخير يا صديقى؟!
* أدهم: لست بخير يا صديقى فإنى أشعر بوحدة تكاد أن تفتك بى وتقتل ما زال حيا منى بعد رحيل أمى وأبى إثر ذلك الحادث المؤلم منذ تلك سنوات العديدة، ليس لى أحد غيرك أستطيع أن أكون أمامه بحريتى وأنزع أمامه هذا القناع السعيد الزائف الذى أخاطب به القراء والإعلاميين.
* أحمد: ما الذى جعلك تعود إلى هذه الحالة يا أدهم أحدث شىء لم تخبرني به؟!
* أدهم: جاءت لى رسالة من فتاة غريبة.
* أحمد: وما الجديد فتأتى لك العديد من الرسائل من المعجبات.
* أدهم: ولكنها مختلفة وأنا أقرأها شعرت بصدق غريب، أحسست بأن كاتبتها تستنجد وتصارع نفسها بين كل كلمة وأخرى، ليست كالباقيات، فيوجد فى رسالتها حزن وخوف وجرأة وثقة وشجاعة، ليست مجرد معجبة عادية تمدح ما أكتب فقط ولكنها تتنفس ما أكتبه وتأخذه منهجا تسير عليه فى حياتها، حتى أحبت من جعل لها هوائها الكلمات وطريقها مكلل بالشعارات، تدعى مريم الحسينى وهى بكلية الحقوق، أريدك أن تبحث عنها وتجد معلومات توصلنى إليها فى أسرع وقت.
* أحمد: حاضر سأحاول.
(غادر أحمد ومازال أدهم قلقا مرتبكا يفكر كيف يصل إلى صاحبة هذه الرسالة، فجاءت بخاطره فكرة وأسرع إلى مكتبه وفتح حاسوبه.. وفى نفس الوقت كانت مريم قد إلى قريتها وألقت التحية على عائلتها وشرعت فى إعداد الطعام مع إخواتها ووالدتها، وبعد أن أنهت غدائها ذهبت فى سبات عميق، ولم تستطع أن تنظر إلى صفحة أدهم على موقع التواصل الاجتماعي كما اعتادت أن تفعل كل بضع ساعات، وعندما نهضت أسرعت للإمساك بهاتفها تقلب فى صفحتها حتى رأت ما جعلها تبكى فرحة..
"إلى مريم الحسينى:
فى انتظار العبث الثانى!
أدهم عبد الرحمن"
وأسرعت مريم إلى أوراقها تبدأ فى كتابة رسالتها الثانية)
"ماذا تريد أن تعرف! هل قلت أنك فى انتظار العبث الثانى لأن ما كتبته لك حقا عبث، أم لكى تتحداني فأستمر فى مراسلتك! أتعلم لماذا اخترت هذه الكلمة؟ لأنها أصبحت تمثلنى فى الآونة الأخيرة، فكم من الصعب على فتاة مثلى أن تنتظر فى طابور مزدحم حتى تصل إليك بعد تعب وإجهاد فتوقع لها كتابك ولا تنطق سوى أربعة حروف فقط مريم! أتدري كم كان مؤلما أن أرى العديد من الفتيات يقتربون منك وأنا أقف بعيدا وكأننى لا شىء! أسعد كثيرا بنجاحك ولكن ينتابني الخوف مع إحساسي بعدم قيامى بشىء، لا أريد أن أكون نكرة بجوارك وكأنك النور وما حولك ظلام دامس، أقول لك للمرة الثانية والأخيرة أحبك وسأحقق أحلامى من أجلك وأجلى، إن استطعت أن تنتظرني لوقت لا أدركه ستجدنى وأثق بأنك ستبحث ولن تصل لى إلا فى الوقت الذى أكون فيه نورا بجوارك حتى وإن كان خافتا، أتعلم بأننى حلمت بك يوما تمسك بيدى وترقص معى على أنغام موسيقى هادئة، وظننت بأننى فى الجنة لأن بها الأمنيات تتحقق، وأنت لم تكن مجرد أمنيتي الأولى بل كنت موجودا فى كل أمنية من أمنياتي المائة.
مريم الحسينى
العبث الثانى"
(مرت سنة بعد رسالة مريم، حاول فيها أدهم أن يبحث عنها لكنه لم يتوصل لشىء، فلم يعرف عنوانها ولم ترد على رسائله التى كتبها على صفحته، حتى رأى في يوم خبر إصدار الرواية الأولى للكاتبة مريم الحسينى بعنوان العبث! وذهب إلى حفل توقيعها وانتظر حتى توقع له كتابها لتفاجأ بجملة "أتوافقين أن تعبثى بحياتي قدر ما تشائين").