كافح د. إسماعيل سراج الدين 15 عاماً كاملة ليطور ويحفظ مكتبة الإسكندرية العريقة من كل العواصف، خاصة بعد ثورة 25 يناير، ووصل بها إلى العالمية فجاوز زوارها المليون سنوياً، واعتمد على الشباب، وربى كوادر مبدعة منهم.
ثم جاء د. مصطفى الفقى، والحقيقة أننى لم أر أحداً تولى منصباً فى مصر يمدح سابقيه ويكثر الثناء عليهم مثله، فقد ظل يمدح علناً أمام الجميع فى سلفه د. سراج الدين، فهذه والله نماذج مصرية مشرفة فى عصور غابت فيها الأخلاق والقيم.
كلاهما عالم موسوعى، كلاهما أحسن الجمع بين الحضارتين العربية والغربية، وأحبا دينهما ووطنهما والناس، وإنصاف الآخر وحبه، والعدل مع الناس، لم يضبط أحدهما أبداً فى ميادين الكراهية أو الحقد أو الإسفاف والابتذال التى عمت ربوع البلاد مؤخراً، كلٌ منهما له شخصيته الفريدة التى تبنى ولا تهدم وتبشر ولا تنفر، كما أثنى الفقى على المهندس العبقرى والمشاغب السياسى د. ممدوح حمزة الذى صمم هذا الشكل العبقرى للمكتبة.
ولقد أسعدنى أن أرى مديراً بحجم وقامة د. الفقى يدعو أكثر من مائة مفكر مصرى من كافة الاتجاهات ومعهم قسس وأزهريون كبار من ذوى الكفاءات النادرة فى تخصصاتهم لكى ينصحوه ويسددوه ويرشدوه علناً إلى أفضل الطرق للنهوض بالمكتبة.
د. الفقى مدير من طراز لم نعهده، قال «أريد النقد لا المدح، انقدونى بأشد العبارات وأقساها ولا حرج عليكم، ويمنع التهنئة للمتحدثين ويطلب منهم الدخول مباشرة فى الموضوع».
قلت لنفسى: أعظم الأشخاص من كان موسوعياً فى علمه متواضعاً فى ذاته محباً للناس لا يحمل قلبه حقداً، وهذه والله ميزة الفقى التى جعلته سلطاناً متوجاً دون مناصب، وأرى أن إدارته للمكتبة هى أرفع من كل مناصب السياسة وأليق به وأجدر.
معظم الحضور شددوا على أن تبتعد المكتبة عن السياسة وألا تحشر نفسها فيها، وحذروا من تحولها إلى فاعل سياسى لأنها ليست مؤهلة لذلك، فما دخلت مؤسسة علمية فى السياسة إلا وتلوثت وأصابتها لعنتها فلا أدركت السياسة ولا بقيت فى العلم والمعرفة.
كما شددت أغلبيتهم على عدم أدلجة المكتبة، أو محاولتها إنشاء أيديولوجية جديدة، فشرك الأدلجة يقضى على العلم والعلماء، آفاق الأدلجة دوماً ضيقة، أما الإنسانيات الجامعة فآفاقها رحبة واسعة تسع الجميع وتسعدهم، هى ملك لكل المفكرين والعلماء، تتيح لهم أن ينشروا إنتاجهم دون أن تتحيز لأحد منهم أو لفريق ضد آخر.
وقد ظهر توافق كبير على أن مصر تعانى من حالة هزيمة ثقافية قبل أى شىء، وأن العرب جميعاً يعانون ذلك الآن، وأن العقل العربى هو الذى هُزم قبل أن تُهزم السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة العربية.
وقالوا للفقى: فى مطار طوكيو تجد مكتوباً عليه بخط كبير «فكر لتبدع» أما مطار القاهرة فمكتوب عليه «تيجر.. اكبر وسيطر»، وكأن مصر بلا هوية ولا مضمون ولا تملك رسالة سوى الإعلان التجارى التافه لسلع ومنتجات تافهة، وهذا صحيح فنحن نستورد كل شىء ولا نصنع حتى التوك توك، وصناعة الشيبسى ليست فخراً لأمة، فكوريا الجنوبية التى تحضرت بعدنا بسنوات طويلة تنتج أربعة أنواع من السيارات العالمية.
كما توافق الجميع على أن المكتبة تعد منبر من لا منبر له، وعليها مسئولية إنشاء نخبة ثقافية وفكرية جديدة بعد أن جاوز معظم أعمار الحاضرين الستين والسبعين، وعلى المكتبة أن تترك فكرة البديل أو المصلح لكل عيوب مؤسسات التعليم، الثقافة، وغيرها فهذا يحملها ما لا طاقة لها به.
ورفض الجميع فكرة القناة الفضائية التابعة للمكتبة لأنها ستفشل، والأفضل منها نشر المعرفة عن طريق أدوات التواصل الحديثة مثل Mobile application وغيرها، وألا تتشرنق المكتبة فى القاهرة والإسكندرية، وإن لم تنشئ فروعاً جديدة فى أسيوط وأسوان والإسماعيلية والمنصورة لصعوبة ذلك فعليها أن تجرى بروتوكولات تعاون مع جامعات ومؤسسات مصرية وعربية وتستغل ساحات الجامعات فى الامتداد الجغرافى غير المكلف للمكتبة، وتوازن بين دورها العالمى والمصرى، وبين الاتصال المباشر مع الشباب وعبر الديجيتال وتمزج بينهما، وعليها أن تزيد نسبة زيارات المكتبة من مليون إلى عشرة ملايين زائر سنوياً.
وشدد الجميع على استقلال المكتبة وقراراتها وأنها لا تتبع الحكومة أو أى جهة ولا تتلقى تعليماتها منها، وقد أكد د. الفقى فى حزم أن «استقلالية المكتبة هى مهمتى الأولى»، وتاريخه وشخصيته يؤكدان ذلك الاستقلال دون الصدام بأحد.
وتوافق الجميع على ضرورة تسجيل تاريخ مصر الحديث عامة والثورات بصفة خاصة بطريقة محايدة وشفافة وعلمية وموضوعية، وكذلك تاريخ الحركات السياسية الإسلامية.