"أنا الغريق فما خوفي من البلل" (المتنبي)
أعرف أنك عزيزي القارئ لن تصدقني عندما أخبرك أنني قطعت اليوم مسافة ثمانية كيلو مترات سيرا على قدمي، ولاعجب فأنا لا أصدق ذلك أيضا! وقبل أن أشرح لك الأمر، دعني أخبرك بداية أنني أكتب إليك اليوم من فيشتا، وهي مدينة صغيرة، أكبر مساحة وسكانا من مدينة لونا، بها جامعة، وسجن، ومسجد صغير، يطلق عليها الدكتور محيي (فيشتا المقدسة) لكثرة ما بها من كنائس. كم أعشق المدن الصغيرة!
كنت أول الواصلين إلى جامعة فيشتا، هكذا ظننت، فقد أوصلني دانيال بسيارته الفولكس فاجن حتى باب الجامعة، بدت لي المسافة قصيرة، فلم تستغرق سوى عشر دقائق، لم نتحدث فيها كثيرا، فكما تعرف فإن دانيال قليل الكلام، كنت أنا من يسأل، وأنا من يجيب، وكان يكتفي بإيمائة من رأسة.
كانت الثامنة والربع، إلا إنني دهشت عندما رأيت الموظفين، كل على مكتبه، كل يعمل في صمت، فلا جلبة ولا أصوات، سألت عن مكتب السيدة شوماخر فدلني أحدهم عليه، استقبلتني ببرود، ملامحها صارمة، لا تتناسب وجسمها النحيل، اعتذرت لها عن عدم حضوري بالأمس وأوضحت لها السبب، قلت لها لقد كنت على موعد في برلين، لم ترد، أخبرتها بأنني أرسلت إليها رسالة عبر البريد الإلكتروني أعتذر فيها، لم تكترث، فأخذت ملف الأوراق منها وانصرفت في هدوء!
كنت بلا هدف، فمازال أمامي وقتٌ كافٍ حتى العاشرة والنصف، بعده سأعود للمحاضرة الترحيبية، فيها سيخبرونا بتفاصيل البرنامج، هكذا الألمان منظمون إلى درجة لا تحتمل، أحب النظام كثيرا، وحبي للفوضى أشد، أحب النظام في مصر ولا أحبه في ألمانيا، معادلة صعبة ولكن هكذا هو الحال، وهكذا هو أنا الآن، لا أدري إلى أين في هذا البرد القاتل، أمامي ساعتان، ولا يمكنني الجلوس من دون أن أفعل شيئا، وكعادتي في مثل هذه الأمور، تركت لقدمي العنان لتسير بي حيث تشاء، كانت وجهتي صوب وسط المدينة، والمدينة كلها وسط، فهي صغيرة لدرجة لا تصدق، بيوتها من الطوب الأحمر الفاقع، شوارعها مقسمة إلى ثلاثة أقسام، قسم للمشاة وهو مطلي بالأسود، وقسم لراكبي الدراجات وهو مطلي بالأحمر، وبينهما تسير السيارات. إشارات المرور تعمل بشكل أوتوماتيكي غير عادل، فلا مراعاة لرجل كبير في السن، ولا لامرأة حامل، ولا لمضطر أن يدخل الحمام، الجميع عليهم أن يدبروا أمورهم في صمت واستسلام!
في وسط المدينة رأيت تمثالا على هيئة حصان، يبدو أنهم في هذه المدينة يحبون الخيل، عرفت فيما بعد أن هذه المنطقة تشتهر بتربية الحيوانات، يقال أن أعداد الحيوانات هنا تفوق أعداد البشر بأضعاف كثيرة.
المدينة هادئة، ساكنة، باردة، درجة الحرارة فيها تقترب من الصفر، لم أجد فيها شيئا يلفت انتباهي، لذا عدت أدراجي إلى الجامعة، ولكن من طريق غير الذي جئت منه، طريقٌ رأيت فيه سورا شاهق الإرتفاع، يعلوه سلك شائك، عرفت من فوري أنه سجن؛ فالألمان ومنذ سقوط جدار برلين لم يعد لديهم طاقة على رؤية الأسوار؛ لذا تجد الجامعات بلا أسوار، والبيوت أسوار حدائقها دون المتر ارتفاعا، قال لي أحدهم ذات مرة، إنما جعلت الأسوار للحيوانات والمجانين! وكان ردي بعد تفكير: وللشعوب المتخلفة أيضا!