«هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها، أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت؟!».
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع.. ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر، ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضمّ الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها، لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة قبيحاً غالباً، متجملاً فى بعضها، بريئاً فى قليل منها، من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى ذات السؤال ملحاً: هى ثورة ولا مؤامرة؟ فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان ولا يزال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نشرت فى حينها، وظلت مشروع كتاب عصى على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
وبنظرة خارج الإطار الضيق للصورة بحثاً فى عيون الآخرين عما لا تراه عين المحب توالت حكايات الغربة من الطيور المهاجرة. ففى سويسرا اعتادت صديقتى التى تعمل بإحدى الهيئات الدولية أن يقبع جواز سفرها فى قاع الترتيب عند التسكين بالفندق رغم قدومها من المطار فى نفس المركبة مع جنسيات أخرى تسبقها فى تنسيق عرفى يقوم به موظفو الاستقبال دون خجل. كانت تلعن الثورة، واستعجلت السفر خوفاً من الرعاع على حد قولها.. ولكنها هنالك فى بلاد الجليد شعرت بلفحة دفء برائحة الوطن، فبمجرد أن عرفوا أنها مصرية كان هنالك استقبال مختلف تماماً، فقد أصبح لها الأولوية حتى فى فتح الأبواب، وانطلقت كلمات الترحيب والتهنئة باللغة العربية المتعثرة بطرافة تلاحقها من العاملين وحتى النزلاء وكأنها نجمة من النجوم.. بل وتهور أحدهم ليصيح بعربية واضحة «تحيا مصر»، لألمح بين كلماتها ولأول مرة نبرة فخر ممتزج باعتذار.
عيون متلهفة تبحث بين الوجوه عن تلك الملامح السمراء بحنين متلهف لقطعة من الوطن حاملين الزهور والوعود بعدما اختزلوا خطوات كثيرة لاستعجال اللقاء.
وبمجرد وصول الطائرة المقبلة من مصر إلى مطار فيينا التقى الأحباب بشوق بعدد سنوات الغربة.. لا تصدق أن كل تلك الحميمية الممتزجة بالدموع بين من يلتقون لأول مرة.
إنها الجالية المصرية بالنمسا فى انتظار أبنائنا مصابى الثورة الذين ذهبوا للعلاج بمبادرة جميلة احتضنتها الطيور المهاجرة التى لم تنسَ أبداً الحضن الكبير، وقد أعادت لهم دماء الشهداء إيمانهم بأشياء كثيرة تعنيها كلمة وطن.
وكان هنالك رجل أنيق أصر أن يدفع بالكرسى المتحرك لأحد أبنائنا، إنه سفيرنا بالنمسا، وقد أحسست بتقدير واحترام كبير له، فتلك المهمة الجميلة أشرف ألف مرة من حمل أمتعة تسوُّق الهانم وتجنيد سفاراتنا بالخارج لرفاهية عائلة مبارك كما جرى العرف لسنين طويلة.
رغم الأضرار البالغة التى تعرضت لها أعمال زوجها، حكت لى صديقتى بسعادة عن ابن أختها ذى الأربعة أعوام والمقيم فى ألمانيا، وقد عاد يوماً من الحضانة يكاد يطير من السعادة، وأخرج بسرعة من حقيبته الصغيرة لوحة صغيرة وبدأ يحكى لأسرته بانفعال وحماس عن يومه الرائع، حيث أحضرت مدرسة الفصل رسومات عن ذلك البلد البعيد الذى يقطنه ناس طيبون كانوا يتعذبون لأن الحاكم العجوز ظل لسنوات كثيرة كثيرة يأخذ كل الطعام والملابس والبيوت له هو وأولاده وخدمه ولا يترك لهم شيئاً أبداً فأصبحوا «جائعين وعطشانين وبردانين» حتى غضب الجميع، فقام الأبطال الشجعان بمواجهته دون خوف، وعندما بدأ يضربهم ويسجنهم لم يفقدوا شجاعتهم فخاف الشرير فى النهاية ورحل، ثم أخبرتهم أن صديقهم الصغير «كريم» من ذلك البلد.. ليلتف الجميع حوله بين الإعجاب والانبهار، وتنهال عليه أسئلة الملائكة الصغار يريدون أن يُرضوا خيالهم الساذج الجميل وقد وجدوا واحداً من بلاد الحواديت وأساطير الأبطال. وبدأت الأنامل الصغيرة تلامس الصفحات البيضاء بألوان الحياة تعبر ببراءة عن تلك الحدوتة فرسموا «كريم».. وتوتة توتة يا ريت الحدوتة تنتهى تلك النهاية الساذجة الجميلة كما نسجها خيال الصغار.. وللحديث بقية.