تعطى الصحفية والإعلامية التى تعمل فى إطار الثقافة العربية مثلاً فريداً على تحدى الصعاب والقدرة على الإنجاز فى أسوأ الظروف، ليس فقط بسبب متاعب التوفيق بين مقتضيات مهنة صعبة وحاجات البيت والأولاد، ولكن أيضاً بسبب خصوصية لافتة تتعلق بمجالنا الإعلامى.
كنا نحضر قمة عربية فى عاصمة خليجية، حين جاءت زميلة إعلامية حسنة المظهر، وكثيرة الاهتمام بزينتها، وعلى درجة ملحوظة من الانفتاح، قاصدة مسئولاً يحاول التهرب من أسئلة الصحفيين. تقدمت الزميلة من المسئول حتى اقتربت لأقصى درجة ممكنة، وقالت بصوت خافت يصعب جداً سماعه: «هل يمكن أن أحصل على دقيقتين من وقت معاليك؟»، وعلى الفور أجابها المسئول، محاولاً استخدام لهجة البلد الذى تنتمى إليه: «ممكن تمنحينى أنت دقيقتين من وقتك؟».
كانت الإجابة مباغتة ولافتة وظريفة فى آن، لذلك لم يشعر الصحفيون الذين تم تجاهل طلباتهم للحصول على تصريحات أو إجراء حوارات بالكثير من الحقد على الزميلة التى استطاعت ببساطة شديدة أن تحصل على كافة المعلومات التى تريدها، لمجرد أن المسئول أراد أن يمنحها من وقته دقيقتين أو أن «يحصل على دقيقتين من وقتها».
إنه أحد المشاهد التى تكشف صعوبة استيعاب موضوع «النوع الاجتماعى» فى مهنة الإعلام، وهى مشاهد تتعدد وتتكرر يوماً بعد يوم، بشكل يعوق اندماج المرأة فى تلك الصناعة على نحو لائق.
شىء قريب من ذلك يحدث حين يلجأ زملاء فى الصحافة أو الإعلام إلى إحدى الزميلات طالبين منها الحديث إلى مصدر معين «لأنه لا يرحب بالحديث إلى صحفيين رجال»، فتنفذ المهمة بنفسها، ليرد عليها المصدر الذى كثيراً ما أهمل مكالمات زملائها من «الجنس الخشن».
وكثيراً ما يشكو إعلاميون وصحفيون رجال من زميلات لهم سبقن فى سلم الترقيات ومضمار النجومية لكونهن «جميلات» أو قادرات على استخدام أنوثتهن لتدعيم حظوظهن المهنية.
ليست الأمور إيجابية فى كل الأحيان، ولكنها أحياناً ما تجلب أضراراً بالغة للإعلاميات والصحفيات بسبب جنسهن.
ليس هناك أبشع مما حدث للإعلامية «لارا لوجان»، مراسلة قناة «سى بى إس» الأمريكية، التى تعرضت لاغتصاب جنسى جماعى وحشى فى ميدان التحرير مساء 11 فبراير 2011، حين كانت تغطى أفراح المصريين بإذاعة بيان «تخلى مبارك عن الحكم».
لقد كانت «لوجان» فى الميدان الأشهر والأهم بين ميادين العالم آنذاك، لتغطى تداعيات الإعلان عن تنحى الرئيس مبارك، حين تدافعت «عناصر خطرة» وفق روايتها، وعزلتها عن زملائها، واعتدت عليها جنسياً.
ثمة مشكلات أقل سوءاً مما جرى لـ«لوجان» جرت لاحقاً فى هذا الميدان، ومن تلك المشكلات تعرُّض عدد من المذيعات لحالات تحرش متباينة الحدة، بعضها يقف عند حد الكلام البذىء، وبعضها الآخر يصل إلى لمس الأماكن الحساسة، وأكثرها حدة كان ما جرى لمراسلة إحدى القنوات الدينية المسيحية التى تم تخاطفها وتعريتها جزئياً قبل أن تخرج من الميدان بصعوبة بالغة.
يروى صحفيون عاصروا تغطية الثورة حكايات عن الإجراءات التى اتخذوها لتأمين أنفسهم وضمان استدامة التغطية الصحفية للأحداث على مدار الساعة فى وقت غاب فيه الأمن تماماً بعد انسحاب قوات الشرطة أو انكسارها. ويحلو لهؤلاء الصحفيين عادة الإشارة فى هذا الصدد إلى أنهم «أوصلوا الزميلات إلى بيوتهن» ثم عادوا ليركزوا فى العمل، متحررين من عبء أمن «الحريم».
تتحول الإعلامية هنا من كونها عنصراً مهنياً يمكنه أن يسد حاجة العمل أو أن يخلق قيمة مضافة تحسن الأداء الصحفى إلى عبء على الزملاء يجب التخلص منه سريعاً عبر إرساله إلى البيت لكى يتم التفرغ للعمل.
ليست تلك المشكلات هى كل ما تتعرض له الصحفية أو الإعلامية فى عالمنا العربى من صعوبات لكونها أنثى، فالمسألة لا تتصل فقط بالتحرش الجنسى أو ممارسة العنف بحقها، ولكنها تمتد لتشمل الهيمنة والتحكم والازدراء المستمد من تأويلات معينة للدين.
أبرز تلك الصعوبات يظهر فى بعض دول الخليج العربية التى يحظر الجسم الصحفى فيها ما يُعرف بـ«الاختلاط» فى أماكن العمل بين النساء والرجال.
ولذلك، فإن المؤسسات الصحفية فى تلك الدول مثلاً تعرف ما يُسمى بـ«القسم النسائى»، وهو قسم يختلف كثيراً عن المدلول المباشر له، فهو لا يهتم بأخبار المرأة وقضاياها، ولكنه يمثل القسم الذى يضم جميع العاملات من الزميلات.
فى ذلك «القسم النسائى» يتم عزل الزميلات الصحفيات حتى لا يختلطن بزملائهن، وهو أمر يُنتج صعوبات جمة على صعيد التواصل وتطوير الأداء المهنى، والأخطر من ذلك أنه يحرم هؤلاء الزميلات من حقهن الطبيعى فى الاندماج فى فرق العمل، وتعزيز الخبرات، والتدرب أثناء العمل، واحتمالية الترقى للمناصب الإدارية والفنية العليا.
وفى الوقت الذى يتم فيه عزل الزميلات الصحفيات فى قسم خاص بهن، بما يترتب عليه من حرمانهن من حضور الاجتماعات وعقد صلات مهنية إيجابية مع زملائهن ومدرائهن، بسبب تأويلات دينية ليست محل اتفاق، تتعرض المرأة الإعلامية لهجمة شرسة أخرى من «علماء دين» أو «سياسيين يرتكزون إلى أساس دينى» بدعوى «درء مخاطر الفتنة».
فقد تفجرت أكثر من مشكلة جراء إحجام بعض الضيوف من الدعاة أو قادة الجماعات والأحزاب الدينية عن الظهور فى برامج معينة، لأن «المذيعة سافرة» أو «متبرجة».
واضطرت مذيعات للنزول على رغبة، أو تنفيذ أوامر، عدد من الضيوف الذين طالبوا بتغيير المذيعة أو إلزامها بارتداء الحجاب لإجراء المقابلة معها.
والواقع أن التعاطى مع الإعلامية والصحفية فى عالمنا العربى لا يحقق الحد الأدنى من التمكين المطلوب لها، ولا يحافظ على الحد الأدنى من الكرامة التى يجب أن تتمتع بها، ليس فقط لكونها صحفية، ولكن أيضاً لكونها إنساناً.
صحيح أن بعض الصحفيات والإعلاميات يستفدن من كونهن «إناثاً»، سواء من خلال الحصول على مزايا من رؤسائهن لاعتبارات خاصة، أو من خلال استخدام تأثيرهن الأنثوى فى المصادر، أو على الأقل تعامل بعض المصادر معهن بإيجابية على سبيل «الملاطفة مع الجنس الناعم»، فى مقابل معاملة قد تبدو خشنة أحياناً مع الصحفيين من الرجال.
ثمة الكثير من الجهد الذى يجب بذله، ليس فقط من جانب الإعلاميات والصحفيات، ولكن أيضاً من جانب جميع أعضاء الجسم الإعلامى العربى، والأكاديميات، والنقابات المهنية، ومنظمات المجتمع المدنى، وعلى رأسها المنظمات الحقوقية، لكى يتم تحرير الإعلامية العربية من التعاطى معها بوصفها «أنثى».
وسواء كان هذا التعاطى مع الإعلامية العربية «إيجابياً» فيما يتعلق ببعض المزايا المهنية التى تحصل عليها، أو سلبياً بما يعوقها عن أداء عملها، أو جرمياً مثل حالات التحرش والاغتصاب وتهديد الأمن الشخصى، أو متدثراً بدعاوى دينية ليست محل اتفاق شامل، فلا شك أنه يسىء جداً لتلك الإعلامية، ليس فقط بسبب صفتها المهنية، ولكن أيضاً بوصفها إنساناً يتم اختزاله فى «جنسه» ولا يتم التعامل معه بوصفه «نوعاً اجتماعياً» جديراً بكل تقدير واحترام.