يوم مع مفتش تموين: بدل السفر 6 جنيهات.. ووداعاً لـ«هيبة الميرى»
ثلاثون عاماً قضاها «محمود» فى مهنة التفتيش التموينى
بعد أن غزا الشيب رأسه، باتت نظرته لمهنته أكثر حنكة، صار يتحدث بلسان الخبير خلف نظارة أكلت نصف ملامح وجهه، كلماته درس يتعلمه الصغار من حوله، فهو كبيرهم أو كما يطلقون عليه «الأستاذ محمود»، ثلاثون عاماً قضاها فى مهنة التفتيش التموينى، مرت عليه 8 وزارات مختلفة، وكل وزارة بقرارات متغيرة، بحسب وصفه، لكنهم دائماً يلجأون إلى ذلك القانون الذى ينظم عمل المفتش التموينى، ويضم بداخله كل المخالفات التموينية (قانون رقم 95 لسنة 45)، وبحسب ما يصفه كثيرون من كبار المفتشين التموينيين، فهو «أبوالقوانين»، أو كما يشاع بينهم «العجوز».
باعتباره السند القانونى لكل العاملين بمهنة الرقابة التموينية، محمود عبدالله، واحد ضمن 22 مفتشاً تموينياً يعملون فى إدارة التفتيش الفنى التابعة للإدارة المركزية للتفتيش التموينى، التى تتبع بدورها الإدارة العامة للرقابة، وتضم بداخل إداراتها المختلفة قرابة 13 ألف مفتش تموينى على مستوى الجمهورية، بينهم 7500 فقط لديهم حق الضبطية القضائية، يقومون بمراقبة ما يزيد على 32 ألف بقال تموينى، ومثلهم من المخابز، بخلاف دورهم الرقابى على منافذ بيع مستودعات الغاز، وغيرها من المحال التجارية التى تصنف كسوق حرة بعيداً عن المنتجات المدعمة.
«محمود»: «الناس مابقتش زى زمان.. والاقتصاد الحر يلزمنا بعدم محاسبة أحد على رفع الأسعار»
من داخل غرفة صغيرة تتسع لثلاث مكاتب أخرى تعلو إحدى جوانبها مروحة قديمة، كلما تحرك رأسها منحته بعضاً من الهواء يلطف حرارة الجو التى بلغت فى ذلك التوقيت، بحسب تقديرات هيئة الأرصاد، نحو 39 درجة مئوية، يقلب «عبدالله» أوراقه الموجودة أعلى مكتبه يميناً ويساراً ويدون بعضاً من ملاحظاته التى لخصها بقوله: «دى شكاوى بتيجى عن طريق مكتب الشكاوى، بنبدأ يومنا بفحصها ونتحرك للتحقق منها». لحسن طالع صاحب الشكوى فإنها تمر بمكتب الوزير وهو ما يجعلها محط اهتمام من كل الموظفين، تستغرق الشكوى ثلاثة أيام فى أسوأ الحالات حتى يتم البت فيها واتخاذ اللازم.
يظل كل من «محمود» ومن معه يدون كل ملاحظاته ويكتب تقاريره عبر أوراق عادية دون الاستعانة بأجهزة كمبيوتر، إذ تعتمد الإدارة فى عملها بشكل رئيسى على جهاز واحد فقط تجلس عليه إحدى المفتشات داخل غرفة أخرى للمفتشين تتسع لست مكاتب، لديها دور محدد لمساعدة باقى المفتشين فى كتابة التقارير وطباعتها ومن ثم إرسالها بالبريد أو الفاكس إلى الجهات المطلوبة، يقول «محمود»: «أكيد الكمبيوتر مهم فى شغلنا. لكن أنا لو احتجت حاجة بلجأ لمديرى فى الشغل عنده جهاز على مكتبه وبيساعدنى أو ألجأ لزميلتنا المسئولة عن جهاز الكمبيوتر».
لا تقف مهمته عند هذا الحد، فلديه أدوار متنوعة ما بين مراقبة إدارات التفتيش بالمديريات الأخرى، والتى قد يتطلب الأمر فيها السفر إلى المحافظات الأخرى، وهنا يتذكر محمود المشقة التى تصاحبه مع كل سفرية: «بننزل نراقب طبيعة العمل فى إدارات التفتيش فى المديريات والمحافظات وطبعاً مفيش فنادق محجوزة لينا إحنا كل واحد بيتصرف مع نفسه نحجز تبع النقابات أو أى فندق على قد حاله لحد ما نخلص المهمة»، وعن طبيعة البدل المصروف له فى كل سفرية يقول: «بيصرفوا لنا 6 جنيه بدل فى اليوم الواحد ولو المحافظة ساحلية بيصرفوا 7.5 جنيه فقط، لكن الإقامة والمواصلات مش بناخد حاجة باستثناء تذاكر القطارات أو الأوتوبيسات بنستردها بخصم 10%».
رواتب المفتشين تتفاوت حسب الدرجة الوظيفية وبعد 30 سنة مرتبى الأساسى 800 جنيه والشامل 6000 جنيه
رحلة محمود المعتادة يومياً داخل أروقة الوزارة باعتباره عنصراً فاعلاً فى الإدارة المركزية للرقابة التموينية، تبدأ منذ الثامنة صباحاً لكنه لا يلتزم بموعد محدد كباقى الموظفين فمهنة التفتيش تقتضى منه العمل فى أى توقيت على حد قوله: «إحنا بنبدأ شغل من الساعة 8 لو كان شغلنا إدارى فى المكتب لكن كل يوم ويوم بننزل شغل ميدانى وفى الحالة دى مفيش مواعيد محددة لكن فى الغالب بننزل بدرى جداً وأحياناً بننزل بالليل، وكل مهمة حسب ظروفها».
تأتى مراقبة السلع المدعمة فى أولويات مهمته اليومية، إذ يحرص فى كل مرة يخرج فيها فى مأمورية تفتيش، بحسب ما سماها، أن يتقدم بأمر تشغيل لإدارة الرقابة التموينية وخط سير بتحركاته، ثم يرافقه اثنان من زملائه داخل سيارة نصف نقل، وبعد تحديد الوجهة يبدأ فى القيام بمهمته المعروفة برقابة الأسواق والسلع الغذائية، وهنا تقتصر مهمته فى متابعة الأسعار المعلنة على كل السلع فقط لكنه لا يهتم ما إذا كانت الأسعار مرتفعة من عدمه فعلى حد قوله: «أهم حاجة إنه يكون حاطط سعر على السلع فقط مش مهم السعر كام ولو كان فيه منتج محطوط سعر بسيط ونفس المنتج فى المحل اللى جنبه سعر أغلى لا يمثل أزمة بالنسبة لى فعلى المواطن أن يبحث عن السعر المناسب له لأننا فى اقتصاد حر والحكاية كلها عرض وطلب».. تأتى فى أولوياته مراقبة تاريخ صلاحية المنتجات المعروضة وإذا كانت المنتجات منتهية الصلاحية يقوم بتحرير محضر وقد يتطلب الأمر التحفظ على الكميات الفاسدة من المنتجات المعروضة على حد قوله: «لازم أشوف إذا كانت المنتجات صالحة أو لا دى أول حاجة ببص عليها، وبراقب الكميات اللى بتتباع وبقارن بينها وبين البيانات المدونة على المنتجات وإذا اكتشفت غش فى الكميات يصبح محضر آخر، وإذا شكيت فى منتج بسحبه وقدمه لوزارة الصحة تحلله وبيتكلف التحليل 400 أو 500 جنيه تسويها الإدارة مع الصحة»، المحاضر تتنوع ما بين عدم إعلان الأسعار على المنتجات وبين غش فى الكميات المبيعة وبين انتهاء صلاحية المنتج، وبحسب ما أكده محمود فإن المنتجات منتهية الصلاحية هى القضية الأسرع فى الحكم بين باقى الأحكام، ولفت إلى أن أغلب تلك القضايا يتم الحكم فيها فى خلال شهرين أو ثلاثة.
عدم إعلان السعر أو نقص الكميات المدونة على السلع أو انتهاء صلاحيتها أبرز المحاضر التموينية
ينطلق «محمود» بصحبة بهاء عبدالباقى، أحد زملائه المفتشين، فى شوارع السيدة زينب باحثاً عن محلات البقالة التموينية ويبدأ جولته بكلمة واحدة للتاجر: «تفتيش تموينى يابنى. فين السجلات والفواتير»، عبر جولة خاطفة بين المنتجات المعروضة يدون ملاحظاته فى ورقة خصصها لتلك المهمة، ينتهى من مهمة البحث بين البقالات التموينية ويبدأ فى جولة جديدة فى محلات السوبر ماركت، يلفت نظره تلك الأسعار غير المعلنة ويدونها كإحدى المخالفات الموجودة، ثم يتجول بين البضائع المعروضة ويلتقط أحد أكياس السكر التابعة لإحدى شركات القطاع الخاص ويلاحظ إحدى المخالفات بعدم طباعة سعر المصنع على كيس السكر فيلجأ إلى تفريغ الكيس من محتواه وإدراجه ضمن المحضر الذى تم تحريره.
تنتهى الجولة الميدانية بتحرير المحاضر المختلفة لتلك المحال التى تضمنت مخالفات تموينية على حد قوله، ليبدأ فى تسجيل المحضر رسمياً يقول: «لازم أروح أسلم المحضر للقسم التابع للمحل، فيه أقسام بتقبل المحضر كما هو وفيه أقسام بترفض تستلم المحضر إلا بعد الحصول على تأشيرة من النيابة التابع لها، وهو ما يحدث مع قسم شرطة السيدة زينب، إذ يتطلب الأمر ضرورة الحصول على تأشيرة من محكمة زينهم قبيل تسليم المحضر»، لديه مدة زمنية محددة من وقت تحرير المحضر لحين ثبوته رسمياً وهى على حد تعبيره 24 ساعة فقط، لكن تلك الخطوة يقابلها بعض المعوقات فحسبما قال: «أنا ممكن أستنى فى القسم ساعتين تلاتة لحد ما الظابط يسجل المحضر رسمى.. ودى معوق كبير بخلاف القسم اللى بيشترط تأشيرة النيابة وهو أمر روتينى فقط ولا يؤثر على المحضر فى شىء فلماذا كل هذه المعوقات؟!».
«محمود» الذى حرر قرابة 40% من المحاضر بالإدارة، على حد قول مديره، يؤكد أن أوضاع المفتشين الجدد مختلفة كثيراً عن تلك الظروف التى بدأ هو فيها العمل، فبحسب ما قال: «أعداد المفتشين فى النازل لأن التعيينات تعتبر متوقفة وبالتالى أغلب المفتشين من كبار السن باستثناء مجموعات محدودة من أوائل الجامعات تم تعيينهم فى أعوام 2000 و2002 و2004 وهم أعداد قليلة مقارنة بالعمل والجهد المطلوب منهم»، وأشار «محمود» إلى أنه يحرص على أن ينقل خبراته إلى زملائه الصغار عبر جلسات ودية يعلمهم فيها أساسيات العمل التفتيشى وعبر مرات عملية يخرجون معه بين الحين والآخر، يتحدث «محمود» عن التدريب الذى تلقاه فى بداية حياته العملية، إذ حصل على دورة تدريبية واحدة فى كيفية أداء العمل وأساسياته وطريقة التعامل مع المواطنين، وهو ما افتقدته الأجيال التى لحقت به.
تختلف رواتب المفتشين التموينيين كل حسب درجته الوظيفية وأقدميته بالمكان لكنها تبدأ، وبحسب تأكيدات المدير المسئول بالإدارة، من 2000 جنيه إلى 6000، وهذا ما يتقاضاه «محمود» بعد نحو 30 عاماً من العمل وقبل أن يلحق بقطار المعاشات بعد ستة أشهر من الآن، المهنة التى حازت هيبة كبيرة طيلة سنوات عمله لم تعد كما كانت من قبل، فكما يقول: «أنا كنت زمان لو نزلت مأمورية بحس إن الدنيا بتتقلب وكل الناس بتبلغ بعضها والكل يعملنا ألف حساب. لكن دلوقتى، وتحديداً بعد ثورة يناير، مابقاش فيه خوف ولا هيبة لحد»، يفسر ما مر بالمهنة بقوله: «بعد ثورة يناير بقى فيه بلطجة فى التعامل من التجار.. ومحدش بقى بيخاف من حاجة».
«محمود» الذى تزوج من زميلته فى الوزارة والتى تعمل فى إدارة الشئون القانونية فى بدايات حياته العملية صار أباً لولدين أكبرهما طالب فى كلية الحقوق والثانى لا يزال بمرحلة التعليم الثانوى، يتحدث عن الأوضاع الحالية ويقول: «الحياة بقت صعبة على الكل.. أنا بقول دايماً الظروف أيامنا كانت أفضل من دلوقتى بكتير». وحول عدم شعور المواطنين بدورهم الرقابى يقول: «مش إحنا بس اللى بنراقب الأسواق فيه جهاز لحماية المستهلك وفيه إدارة التفتيش فى وزارة الصحة وهى تقوم بأدوار شبيهة بأدوارنا وكلنا بننزل شغلنا وبنقوم بيه لكن أزمة الأسعار مش فى إيدينا إحنا اقتصاد حر»، ويتابع: «زمان كانت الأسعار الجبرية بتجعل الرقابة ليها دور واضح وفعال لكن حالياً ده اقتصاد حر والأسعار تتفاوت فيه حسب العرض والطلب، وبالتالى على المواطن البحث عن المكان الذى يمنحه نفس السلعة بسعر يتناسب معه».
ثلاثون عاماً قضاها «محمود» فى مهنة التفتيش التموينى
داخل أحد المحلات التموينية أثناء التفتيش عليه