أحاول الكتابة مراراً، العبارات لا تسعفنى، الكلمات باهتة لا تستطيع أن تجسد المعنى، أشلاء مغموسة بالدم، صرخات مكتومة، خوف وفزع فى عيون تحجّرت الدموع فيها، فى دقائق تحول الوطن إلى مشهد جنائزى.
كان الخبر صادماً، لكنه لم يكن جديداً، لقد تعودنا على الموت المجانى، أرواح تُزهق بلا ثمن، لا تسألنى كيف ولماذا، فمصر بلد العجائب، كأننا نرفض تعلم الدروس، ونتجاهل الأحداث ماضيها وحاضرها، ونصرُّ على المضىّ فى طريق بلا نهاية، الموت عنوانه، والسبب مجهول الهوية.
فى أزمان سابقة، فقدنا الآلاف، نتاج حوادث القطارات الكارثية، أطلقنا التصريحات من مواقع الأحداث، هددنا، وتوعّدنا، شكّلنا لجاناً لتقصّى الحقائق، عاينت على الطبيعة واستمعت إلى شهود العيان، أطلقت صيحاتها من منصة البرلمان، أقسمت الحكومة والدموع تبلل وجنتيها أنها المرة الأخيرة.
تدفقت المليارات إلى جيوب المقاولين والمستوردين، رسمنا خطط التطوير، استعنا ببيوت الخبرة الأجنبية، مضت السنوات، الزمن كفيل بالنسيان، انخرطنا فى خضمّ الحياة اليومية، عاد كل شىء إلى مجراه الطبيعى، وفجأة صحونا على كارثة جديدة.
ساعات قليلة، وكان السادة المسئولون يؤدون الواجب على الوجه الأكمل، أطلوا علينا من شاشات التلفاز من موقع الحدث، أى والله من موقع الحدث، أطلقوا كلماتهم الرنانة، قالوا لنا إنهم شكّلوا اللجان الفنية لمعرفة الأمر وحقيقته، لكن وزير النقل استبق الجميع، وقال إن الحدث هو نتاج خطأ بشرى.. إنها نفس اللغة، نفس المفردات، نفس الاتهامات، أسهل الأشياء أن تطلق اتهامك الجاهز، المعلب، خطأ بشرى، يجب محاسبته، وإحالة المتسبب فيه إلى النيابة العامة.
إن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل لا بد من البحث عن ضحية، كبش فداء، نقدمه إلى الرأى العام حتى ينشغل ويهدأ، ويا حبذا لو كانت هناك بعض التفاصيل التى تُلهى عن الحدث الأكبر، مثل: «السائق ومساعده» قفزا من القطار وتركاه يصطدم بالقطار الآخر.. سرعة القطار كانت على غير المعتاد، لأن صاحب حادث قطار المناشى هو نفسه سائق هذا القطار.. وفاة مستشار وزير النقل إحساساً بالذنب بعد أن رأى المشاهد والأشلاء!!
فى هذا اليوم انشغلت الفضائيات بالحدث، تقارير من الموقع توجع القلوب، شهود عيان، فتاوى تصدر من محللين وخبراء، وطلبات إحاطة تقدم إلى مجلس النواب، مطالبات بإقالة وزير النقل، والحكومة إن أمكن، وجوه تطل علينا من الشاشات تندب حظ الوزير الذى هو ضحية لإهمال وزراء سابقين لهذا المرفق الحيوى، لجان إلكترونية تنطلق بعضها يطالب بالإقالة والبعض الآخر يرى أن الأزمة أكبر من الوزير بل وأكبر من الحكومة ذاتها.
يتذكر البعض فجأة أحداثاً سابقة، إنه نفس السيناريو، بكل تفصيلاته، نفس العبارات والاتهامات، بل ونفس الأسباب أيضاً، التى أوصت لجان تقصّى الحقائق بتلاشيها فى أوقات سابقة.
لقد سئم الناس من مسلسل الأكاذيب التى عمّت حياتنا، كأننا لم نتعلم الدروس والعظات والعبر، جهاز إدارى خرب، استهتار بحياة الناس، ثقافة تتوارثها الأجيال عنوانها «القضاء والقدر» هى محاولة للهروب من المسئولية، ومحاولة إقناع الناس بأن كل شىء مقدّر ومكتوب، وكأنهم بذلك أبرياء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. بعد قليل، ينسى الناس الحدث، يحتفظون بالمشاهد للذكرى، ثم سرعان ما ينتهى كل شىء، نغوص فى مجريات الحياة ننخرط فى تفاصيلها، حتى نصحو على كارثة جديدة.
لا أظن أن هناك بلداً شهد مثل هذه الأحداث فى فترات زمنية متقاربة، وسيناريوهات متكررة كما شهدت مصر، إنه الإبداع والتميز عن الآخرين، كأننا قد ابتُلينا بهذه الأحداث وأصبح الشفاء منها مستحيلاً.
لقد شهدت مصر فى فترات سابقة أزمات ومشاكل وأحداثاً يشيب لها الولدان، فوضى عارمة أعقبت أحداث 25 يناير، دمار وخراب وفساد وانفلات أخلاقى، تلتها ثورة عظيمة فى الثلاثين من يونيو، رفعت شعار «استرداد الدولة المصرية والحفاظ على هويتها».
لقد ظن البعض أننا قد أنجزنا المهمة باسترداد الدولة المخطوفة من عناصر الإخوان وانتهى الأمر، حققنا الانتصار، ونسى هؤلاء أن الفساد يعشش فى الحوارى والمدن والمؤسسات، وأن ثقافة اللامبالاة لا تزال سائدة فى كل المجالات.
هل تعرفون السبب؟
إنه غياب العقاب الفاعل والقوى الذى يردع بكل قوة ودون تردد، لو حدث ما حدث فى بلد مثل اليابان لانتحر المسئول قبل أن يُنحر، ولو حدث فى الصين أو كوريا أو غيرهما لطارت الرؤوس المذنبة قبل أن تدلى بكلمة واحدة. أما نحن، فالمسامح كريم، والعقاب لن يعيد الأرواح التى أُزهقت، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لقد مللنا وهرمنا ونحن نتابع الأحداث كأنها مسلسل تليفزيونى لا يريد أن ينتهى، لقد أصبح الناس على قناعة بأن الوعود التى تطلق هدفها الاستهلاك وترحيل الأزمة، وأن التهديد بالحساب سيكون ضحيته فى النهاية عامل الإشارة أو سائق القطار، وأن صفحة الحادث ستنتهى انتظاراً لحدث جديد تتكرر فيه ذات المشاهد، وتطل من بين ثناياه نفس الوجوه لتؤكد لنا مجدداً أن شيئاً لم يتغير ولن يتغير.
إنها ليست دعوة لليأس أو الإحباط أو التسليم بالأمر الواقع، بل هى محاولة لقراءة المشهد بتفصيلاته بعيداً عن الضجيج الإعلامى والكلمات المنمقة والحرص على مشاعر هذا المسئول أو ذاك بينما جثث ذوينا غارقة فى بحور من الدماء تسأل: إلى متى.. إلى متى.. إلى متى؟!