كل عام والجميع بخير وسلام، عيد أضحى سعيد على الوطن الغالى، وهذا العام لن نعاتب العيد كالعادة متسائلين «بأى حال عدت؟»، لكننا سنعاتب العتاب نفسه.. منذ سنوات غنى هانى شاكر «مش بعتب عليك»، وعانده بعد ذلك حسن الأسمر وغنى «بعتب عليك»، وكلاهما لم يستمعا إلى أسمر آخر، هو العندليب الذى قال بحسم: «بلاش عتاب».. كل هذا والسيد محمد محيى يقف حائراً بين الجميع ويغنى متسائلاً: «أعاتبك على إيه ولا إيه؟».. حدث كل ما سبق بينما المطربة «عتاب» ذاتها، من المشرق العربى، لم تعاتب أحداً لكنها قالت «اسمعوا شكوتى».. فيما كانت المطربة «وردة»، من المغرب العربى، أكثرهم اختصاراً حيث اكتفت بـ«كلمة عتاب» فقط، وهى غير «همسة عتاب» أحد أشهر البرامج الإذاعية.
أدبياتنا العربية جعلت للعتاب مكانة متميزة، وقد أنهى «المتنبى»، أمير الشعر القديم، عتابه الخالد لسيف الدولة الحمدانى ببيت بليغ شهير قال فيه: «هذا عـتابـك إلا أنـه مقـة، قـد ضمـن الدر إلا أنه كلم».. والمقة هى المحبة، ويبدو أن الرجل كان يريد أن يقول بلغة عصرنا: «العتاب أصل المحبة»، وهو ما عبر عنه أمير الشعراء أحمد شوقى، متنبى العصر الحديث، فى قوله: «على قدرِ الهوى يأْتى العتاب».
ولعل أرق عتاب فى الشعر العربى، هو عتاب «أمية بن أبى الصلت» لابنه، الذى كان يلمس الروح بأثر أقوى من الهجاء الصريح.. وجد «أمية» معاملة غير لائقة من ابنه فقال له: «غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعَلّ بما أحنى عليك وتنهلُ.. إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ.. جعلت جزائى غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل».. وفى الاتجاه نفسه، هجاء الأب لابنه، قال «معن بن أوس» أبياته الخالدة: «فيا عجباً لمن ربيت طفلاً، ألقمه بأطراف البنان.. أعلمه الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رمانى.. وكم علمته نظم القوافى، فلما قال قافية هجانى».
أما أشد عتاب فهو ما قاله «حماد عجرد» فى «أبى حنيفة النعمان» الذى كان نديماً لحماد ثم غير مسار حياته إلى الدين، فأخذ يهجو صاحبه القديم، فما كان من حماد إلا أن عاتبه بأبيات، جعلت صديق الأمس يكف تماماً عن ذكره مرة أخرى خوفاً من لسانه.. قال «حماد»: «إن كان نسكك لا يتم بغير شتمى وانتقاصى.. فاقعد وقم بى حيث شئت لدى الأدانى والأقاصى.. فلطالما زكيتنى وأنا المقيم على المعاصى.. أيام تأخذها وتعطى فى أباريق الرصاص».
وبعيداً عن التيه فى غياهب الأدب ودروب الطرب، فإن أفضل النصائح النوعية للعتاب تأتى من المأثور الشعبى الذى يقول: «لا تعاتب الندل ولا تلومه»، و«عتاب الندل اجتنابه».. وانعكس المأثور الشعبى على الإرث الأدبى، فظهر ما يُعرف بـ«أدب التغافل»، وهو أحد آداب السادة، ومكرمة لا يعرفها إلا الأصيل الذى لا يهتم بصغائر الأمور، ويقولون إن النُبل هو: «ترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب».. ويمتد «أدب التغافل» على استقامته ليصل إلى «الصفح الجميل»، وهو صفح دون عتاب، وهو قريب كل من: الصبر الجميل (الصبر بغير شكوى)، والهجر الجميل (الهجر بلا أذى).. كل عام وحضراتكم بخير وسلام.