شهر سبتمبر كان شهراً خاصاً جداً فى حياة الزعيم أحمد عرابى. ففى التاسع من هذا الشهر عام 1882 قاد «عرابى» مظاهرة عابدين الكبرى، التى كانت واحدة من النقلات المهمة فى تاريخ ثورته، وفيه دارت أشرس معاركه ضد القوات الإنجليزية، التى تحرّكت لاحتلال مصر، وفى 21 سبتمبر عام 1911 توفى أحمد عرابى. شأنه شأن الكثير من الزعماء، اختلف حوله الرأى، فهناك من وضعه فى مصاف الثائرين الكبار، وهناك من اتهمه بسوء النية وسوء التقدير، وأنه كان سبباً مباشراً لدخول الإنجليز إلى مصر. تقديرى أن مسألة سوء النية ظلم كبير للرجل، فتاريخه ورحلته فى الكفاح تؤكد أنه كان وطنياً مخلصاً من نبت هذه الأرض، ربما لازمه سوء التقدير فى بعض المواقف، لكن اللافت فى كل الأحوال لمن يقرأ تاريخه أن ثمة ثلاثة أمور أساسية تحكم الزعماء والمواقف منهم، أولها «سيطرة الدين على السياسة»، وثانيها «التآمر والخيانة»، وثالثها: الاحتكام لمبدأ «سلطة فى اليد خير من سلطة على الشجرة».
سيطرة الدين على السياسة ظهرت واضحة فى الصراع الذى نشب بين الخديو توفيق والزعيم أحمد عرابى، فقد حرص كلاهما على اللعب بورقة الدين ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً. كان «عرابى» لا يفوت فرصة إلا ويؤكد فيها ولاءه للدولة العلية، وأن وقوفه ضد الانجليز يأتى دفاعاً عن سلطان الخليفة العثمانى على مصر، أما «توفيق» فكان يلح على السلطان -مدعوماً من الإنجليز- لإصدار فرمان يعلن فيه عصيان «عرابى» لخليفة المسلمين. موقف الخديو كان مفهوماً، فهور رجل يريد السلطة بأى ثمن، حتى لو كان إعلان الولاء الكامل للسلطان العثمانى الذى اجتهد جده محمد على فى التمرد عليه من أجل بناء دولة مستقلة فى مصر. غير المفهوم حقاً هو موقف «عرابى» الذى اعتمد على إحياء شعلة الوطنية فى قلوب المصريين، دفاعاً عن استقلال مصر ضد الاحتلال الإنجليزى، فى وقت لم ينظر فيه إلى السيطرة العثمانية على مصر كشكل من أشكال الاحتلال. ربما رد البعض بأن السياق التاريخى فى مصر عام 1882 كان يفرض ذلك عليه، وهو رد فى محله، لكن من الصعوبة بمكان استساغته، بالنظر إلى أن السبب الرئيسى للتحرك الأول لـ«عرابى» عام 1881 تمثل فى وقف حالة التغلغل والسيطرة التركية والجركسية على الجيش المصرى. وكانت النتيجة أن دفع «عرابى» ثمناً باهظاً لذلك حين انفض مناصروه من حوله بمجرد صدور فرمان عصيانه.
مسألة «التآمر والخيانة» كانت سبباً أساسياً من أسباب فشل عرابى فى المواجهات العسكرية التى خاضها ضد الإنجليز، فقد تم شراء الكثير من المحيطين به من المدنيين والعسكريين، فانكشف جيشه فى معركتى كفر الدوار والتل الكبير، وكانت الهزيمة التى أدت به إلى تسليم نفسه لقائد القوات الإنجليزية الغازية ليتم محاكمته ونفيه إلى جزيرة «سيلان»، ويعود بعدها إلى مصر، ليتنكر له الكثيرون ممن يحكمهم مبدأ «سلطة فى اليد خير من سلطة على الشجرة». وقد تعجب إذا عرفت أن من بين هؤلاء الزعيم مصطفى كامل، فقد رسمت صحيفته «اللواء» صورة لـ«عرابى» كصنيعة للإنجليز، وكان من بين المتنكرين أيضاً أمير الشعراء أحمد شوقى، الذى استقبل «عرابى» عند عودته بقصيدة هجاء، مطلعها: «صغار فى الذهاب وفى الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابى؟».