عندما تعرضت علاقتنا بالعراق لأزمة نتيجة استنكار بيان الأزهر لما وصفه بجرائم ميليشيات «الحشد الشعبى» الشيعية بمناطق السنة، كتبت فى الشقيقة «المصرى اليوم» 23 مارس 2015 محذراً «التباس الموقف السياسى وسرعة متغيراته تفرض متابعة دقيقة وموسعة، وتنسيقاً مع الخارجية والجهات السيادية.. نربأ بشيخنا الجليل أن يعبر عن موقف قائم على قلق ومخاوف تغذيهما حملات إعلامية»، واختتمت «دور الأزهر يتمثل فى نشر ثقافة التسامح والسلام، والتقريب بين المذاهب، وتهدئة المواجهات الطائفية المستعرة، وكشف دعاوى الإرهابيين، كى لا يستدرج لخلاف طائفى يضعف قيمته الدولية، ويستغل فى محاولة المساس بقامة شيخه الجليل، ويحوله من أداة للحل، إلى جزء من المشكلة».. وعندما تعرض الأزهر لهجوم برلمانى، ومشروع لتعديل قانونه، كتبت فى «الوطن» 5 مايو 2017 «الأزهر وإن كان فى حاجة للتجديد، لكن النيل من هيبته لن يسمح بالإصلاح، وانهياره يخدم مؤسسات سلفية وشيعية متشددة.. ثقله الدولى جزء من قوتنا الناعمة، وغيابه يسىء لصورتنا الوطنية، والأخطر أن اتساع قاعدة مريديه تكاد تشمل مجمل المسلمين، فلمصلحة مَن نستعدى هؤلاء» وبالفعل سقط المشروع.. ذلك هو موقفى، آثرت التذكير به بداية، ليمتنع المزايدون.
أخطاء بيان الأزهر مساء الجمعة الماضى المتعلق بمسلمى ميانمار «بورما»، تجاوزت السوابق:
1- اعترف باستناده فى تقييم الموقف إلى ما تناقلته وسائل الإعلام ومواقعُ التواصُل من صور، رغم أنها فبركات تداولها الإخوان؛ الجثث المتفحمة منقولة من موقع «أفريكا دوت كوم»، لضحايا انفجار شاحنة نقل وقود بالكونغو 9 يوليو 2010.. جثث الأطفال والنساء بالخيام، وعلى الشواطئ، منقولة عن غلاف «التايمز» 19 مايو 2008، لضحايا إعصار بورما.. صور لرهبان بوذيين يحرقون جثث ضحايا زلزال يوشو بالصين 24 أبريل 2010، وفقاً لمعتقداتهم.. أنهار الدماء التى تسيل على الأسفلت نشرتها «وورلد هوم» الصينية 27 سبتمبر 2007، لضحايا إطلاق الشرطة البورمية النار على تظاهرات الرهبان البوذيين.. إحراق شباب أحياء بالشوارع منقولة عن «التليجراف» 31 مايو 2012 لهنود يحرقون أنفسهم فى مظاهرة احتجاجية.
2- ندد بعدم فاعلية موقف المنظمات الدولية والإنسانية، مشيراً إلى أنها كانت ستتخذ موقفاً آخر مختلفاً، لو أن هذه الفئة من المواطنين كانت من أتباع أى دين أو مِلَّة غير الإسلام، رغم أن الصراع عرقى تاريخى لا علاقة له بالديانات، الروهينجا قومية تنتمى لأصول بنغالية، بخلاف الأغلبية التى تنتمى لأصول صينية، عددها يقدر بـ800 ألف وفق إحصاء 2012، بورما تعتبرهم مهاجرين غير شرعيين، وبنجلاديش ترفض الاعتراف بهم كمواطنين، وتعزل المتسللين منهم فى معسكرات، وهناك مواطنون مسلمون آخرون يتجاوزون 2 مليون، لا يعانون التمييز والتهميش بل يعيشون حياتهم بشكل طبيعى بعيداً عن أى توتر، أغلبيتهم سنّة والبعض شيعة، ينتشرون بطول البلاد وعرضها، خاصة العاصمة، التى بها تسعة مساجد كبرى.
3- اتهم ممثلى الأديان والعرقيات فى ميانمار بأن ضمائرهم سمحت لهم بالتحالف مع عناصرَ متطرفةٍ مِن جيش الدولة المسلَّح!! وكأن تسلح الجيش جريمة، والولاء له خيانة.
4- أشار إلى أن هذه الجرائم من أقوى الأسباب التى تشجع على ارتكاب جرائم الإرهاب، وكأنه يقدم مبرراً للإرهابيين.
5- تهكم على رئيسة الوزراء أونج سان سو كى، واصفاً لها بأنها تحمل جائزة نُوبل للسلام بإحدى يديها، وتبارك باليد الأخرى الجرائم التى تضع «السلام» فى مهب الريح.
6- والأخطر هو تدخل الأزهر كوسيط فى الأزمة بمثل هذه المفاهيم، فقد استقبل بداية العام ممثلى أطرافها، وأكد أنه سيقود تحركات إنسانية عربية إسلامية دولية تتعلق بها.. دون إدراك للأبعاد الحقيقية للمشكلة.
جذور المشكلة عميقة؛ تمتد للحرب العالمية الثانية عندما احتلت اليابان بورما 1942، أغلبية الشعب أيدها لمعاناته من الاحتلال البريطانى، باستثناء الروهينجا الذين سلحهم المحتل، فذبحوا 50 ألف بوذى، وتبنوا منذ 1947 دعوة استقلال «أراكان»، أو انضمامه لبنجلاديش، أمريكا لا تزال تسيطر على ممر ملقا بين بحر الصين والمحيط الهندى، الذى تمر عبره نصف تجارة النفط الدولية، و80% من احتياجات الصين، روبرت كابلان أحد أهم خبراء الجيواستراتيجى المعاصرين أكد أن الصين لن تصبح قوة عسكرية عالمية دون الوجود فى المحيط الهندى، الصين استثمرت فى ميانمار منذ 2007 عدة مليارات لمد خطوط أنابيب توفر ثلث احتياجاتها من النفط والغاز، ولاية «أراكان» تتبعها حقول النفط والغاز، وتخترقها أنابيب نقله، وتعتمد الصين على موانيها كممرات لتجارتها الدولية عبر المحيط الهندى وطريق الحرير، ما يفسر استهدافها بتمرد الروهينجا، لمنع الصين من التحول لقوة دولية اقتصادية وعسكرية، واستكماله بنشاط «جيش استقلال» ولاية كاشين أقصى الشمال، بحدودها المشتركة مع الصين، الأخير أحدث أصداءً دولية، يتجاهلها إعلامنا العربى، لأن سكان الولاية مسيحيون، مما يفسد التوظيف الدينى لمشكلة الروهينجا، ويسقط مبررات التعبئة والحشد فى الدول الإسلامية.. إشعال الموقف شمال ميانمار يستهدف تصدير الاضطرابات لإقليم شینجیانج المجاور، غرب الصين، الذى يحارب 5000 من متطرفيه «الويجور» ضمن الجماعات الإرهابیة بسوريا.. الضغط الإعلامى بلغ حد التناقض؛ التشهير بالصين مرة لممارستها القهر ضد رهبان البوذية فى التبت، وأخرى لدعمها مذابح البوذيين ضد المسلمين فى ميانمار!!.. ما يتم حالياً مع الصين هو عملية استنساخ لمحاولات حصار الأساطيل الروسية بالبحر الأسود وإغلاق طريقها للمياه الدافئة، التى أجهضها الروس باحتلال شبه جزيرة القرم.. فماذا يتوقعون من الصين؟!
الصين وروسيا يبطلان جهود الإدانة الأمريكية لميانمار بالأمم المتحدة منذ 2012، ما يدفعها للاعتماد على إدانات «هيومن رايتس ووتش» التى تعمل بتنسيق مباشر مع أجهزة المخابرات الغربية، الروهينجا أسسوا «حركة الإيمان فى أراكان» 2016، سارعت مجموعة الأزمات الدولية بقيادة جورج سورس، الممولة للربيع العربى بتأييدها، ومنظمة «أرنو» الممثلة لهم بالخارج، افتتحت مقراً فى لندن، لتولى الاتصالات وعمليات التعبئة السياسية والإعلامية وحشد المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والإغاثة.. داعش أهم الجيوش السيارة التى توظفها أجهزة المخابرات الأمريكية لتحقيق أهدافها السياسية، أكثر من 30 منظمة متطرفة بجنوب شرق آسيا بايعتها، وعمليات تجنيد مقاتلين محليين داخل معسكرات اللاجئين ببنجلاديش تسير على قدم وساق، وإخلاء المروحيات الأمريكية لقيادات داعش وعائلاتهم من دير الزور أواخر أغسطس يأتى استعداداً لدفعهم فى مهمة جديدة، أغلب الظن فى اتجاه جنوب شرق آسيا.. الأزمات الدولية تصنعها أجهزة المخابرات الدولية، ما يفرض صعوبات بالغة على المؤسسات الدبلوماسية لفك طلاسمها دون استعانة بمخابرات دولها، فما بالك بالمؤسسات الدينية؟!.. يا مولانا الإمام الطيب.. أما كفاكم من سياسة؟!.