ترددت بقوة فى الآونة الأخيرة عبارة «صناعة الدولة الفاشلة» بحسبان أن ذلك هو هدف قوى الشر والتآمر، وصولاً إلى غايتهم ومرادهم النهائى متمثلاً فى تفتيت الدول العربية إلى دويلات صغيرة متنازعة ومتناحرة فيما بينها، وذلك حتى يسهل على إسرائيل السيطرة عليها والقضاء على أى خطر يتهدد وجودها. ولعل الاستفتاء على إقليم كردستان المحدد له يوم 25 من سبتمبر الحالى أحد الآثار التى نشهدها حالياً كنتيجة لتحويل العراق الشقيق إلى دولة فاشلة أو إلى دولة هشة على أسوأ تقدير. وفى مواجهة هذه المخططات، يبدو من الضرورى صياغة مشروع وطنى لبناء وصناعة دولة وطنية قوية تبدو عصية على التفتت والفشل.
وقد جاء فى كلمة الرئيس السيسى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى التاسع عشر من سبتمبر الحالى أن المَخرَج الوحيد من أزمات المنطقة هو التمسك بمشروع الدولة الوطنية الحديثة التى تُعلِى القانون والدستور. وقد كان خطاب الرئيس أمام الجمعية العامة هو المناسبة الثانية فى ظرف أربعة أشهر، التى يتحدث فيها عن مواصفات الدولة الوطنية الناجحة، التى يرى أنها الحل لجميع مشكلات المنطقة العربية، وفى مقدمتها مشكلة الإرهاب. فمن بين خمسة مبادئ أو أولويات أساسية لسياسة مصر الخارجية، قال الرئيس إن المبدأ الأول هو «أن المخرج الوحيد الممكن من الأزمات التى تعانى منها المنطقة العربية هو التمسك بإصرار بمشروع الدولة الوطنية الحديثة، التى تقوم على مبادئ المواطنة، والمساواة، وسيادة القانون وحقوق الإنسان، وتتجاوز بحسم محاولات الارتداد للولاءات المذهبية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية.. إن طريق الإصلاح يمر بالضرورة عبر الدولة الوطنية، ولا يمكن أن يمر على أنقاضها. هذا المبدأ هو باختصار جوهر سياسة مصر الخارجية، وهو الأساس الذى نبنى عليه مواقفنا لمعالجة الأزمات الممتدة فى المنطقة». وكانت المناسبة السابقة التى تحدث فيها الرئيس عن تشخيص مماثل لمشكلات الدول العربية، وبوصفة مطابقة للعلاج، هى خطابه فى قمة الرياض الأمريكية العربية الإسلامية فى مايو الماضى، حين قال: «يتحتم ملء الفراغ السياسى الذى يفرخ الإرهاب، وذلك بدعم الدولة الوطنية بالإصلاح والحكم الرشيد، ودولة القانون والمواطنة وحقوق الإنسان، وتمكين الشباب والمرأة».
وهكذا، وانطلاقاً مما سبق، نعتقد أن اللبنة الأولى فى هذا المشروع الوطنى لبناء دولة وطنية حديثة تكمن فى إرساء دعائم دولة المواطنة. وقد ظهر مصطلح «المواطنة» لأول مرة فى الحياة الدستورية المصرية فى سنة 2007م، حيث جعلت التعديلات التى دخلت آنذاك على الدستور المصرى من «المواطنة» أساساً للنظام السياسى (المادة الأولى). أما الدستور الحالى الصادر عام 2014م، فقد نص على المواطنة فى ثلاثة مواضع، حيث تشير الديباجة إلى «ثورة 1919 التى أزاحت الحماية البريطانية عن كاهل مصر والمصريين، وأرست مبدأ المواطنة والمساواة بين أبناء الجماعة الوطنية...»، وتنص المادة الأولى الفقرة الأولى على أن «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شىء منها، نظامها جمهورى ديمقراطى، يقوم على أسس المواطنة وسيادة القانون». وتحدد المادة التاسعة عشرة من الدستور أهداف النظام التعليمى، بحيث تذكر من بينها «إرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز».
وقد تطور مفهوم المواطنة خلال القرنين الماضيين، حتى وصل إلى مدلولها الحالى، والذى يقوم على عدة مبادئ فى مقدمتها تساوى المواطنين فى الحقوق والواجبات، بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو النوع أو المستوى الاقتصادى والاجتماعى. وتبدأ هذه العملية بتساوى الناس أمام القانون. وقد ورد النص على مبدأ «المساواة أمام القانون» فى المادة الثالثة والخمسين من الدستور المصرى الحالى، بنصها على: «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض».
والحق أن المساواة بين المواطنين هى سبيل تحقيق العدل فى المجتمع. والعدل هو الذى تستقيم به الحياة البشرية، وهو أساس التماسك والترابط والتعاضد بين الأفراد. ولذلك، قيل إن (العدل أساس الملك).
وللحديث بقية...