عشية التحركات العسكرية التركية فى اتجاه الأراضى السورية، وقف الرئيس التركى أردوغان أمام مناصريه ليشرح أسباب دخول القوات التركية إلى الأراضى السورية، وتحديداً محافظة إدلب المحاذية للحدود المشتركة، قائلاً بحسم إنه «لا أحد يمكنه أن يشكك فيما نقوم به هناك»، لأن تلك المنطقة السورية تأتى منها التهديدات الإرهابية والصواريخ التى تنزل على رؤوس الأتراك فى قراهم، وهو أمر لن يُسمح به مستقبلاً، فضلاً عن أن الدخول فى عمق الأراضى السورية هو جزء من تفاهمات دولية مع كل من روسيا وإيران فى الأستانة والمتعلقة بإنشاء ما بات يُعرف بمناطق خفض التوتر التى ترعاها دولة من الدول، وتنشر فى سبيل ذلك قوات من الشرطة جنباً إلى جنب تفاهمات مع القوى المسلحة فى المنطقة.
لكن تركيا لن تكتفى بنشر قوات شرطة بل بجنود من الجيش ومدرعات ومدافع ثقيلة وعمليات مراقبة جوية، كما ستقيم مواقع عسكرية حصينة فى مواقع مختارة تهدد بها أوسع المناطق المحيطة. باختصار، المسألة أكبر من إنشاء منطقة خفض توتر، وفى مؤشراتها الأولى مقدمة لبقاء طويل الأمد، وعلى المتضرر أن يفعل ما بوسعه إن استطاع. ولكن أين يوجد هذا المتضرر وماذا لديه ليفعل؟ ولنا هنا أن نتساءل عن موقفى روسيا وإيران، وهما المفترض الداعمان الأكبر لوحدة سوريا الجغرافية؟ ثم أين الجامعة العربية؟
الربط التركى بين اعتبارات الأمن القومى وبين التحرك العسكرى يُعد تبريراً عادياً وشائعاً فى مثل هذه المواقف والظروف المشابهة، فلا توجد دولة تقبل أن تكون حدودها مصدراً دائماً للتهديد، أو معبراً لأفراد وجماعات خارجين عن القانون. مع أننا نعرف جيداً أن تركيا استخدمت حدودها لنقل المسلحين التابعين لداعش إلى الداخل السورى وأنها وفّرت لهم الملاذ وتاجرت معهم فى النفط والأغذية والأدوية وأشياء أخرى كثيرة، ومع ذلك ظلت تتشدق كذباً بأنها تحارب الإرهاب والإرهابيين. ومع ذلك تبدو التحركات التركية الأخيرة مليئة بالتناقضات، لا سيما فى ضوء الادعاء بأن هدف العملية العسكرية الأخيرة يتضمن الحفاظ على الهدوء فى إدلب التى تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وقوامها الأساسى جبهة النصرة أو بالأحرى القاعدة المصنفة تنظيماً إرهابياً دولياً، وتلك مفارقة كبرى، ولكننا أمام سياسة أردوغانية تجيد البراجماتية إلى أقصى الحدود ما دامت تحقق أهدافاً مباشرة. ومن الأسباب المعلنة الحيلولة دون تعرض إدلب وأهلها للقصف الجوى العنيف الذى توعّد به الروس والجيش السورى، والحفاظ على قوام المعارضة التابعة للجيش السورى الحر الموجود جزئياً فى بعض المناطق وهو التابع تماماً لأنقرة والمأمور بأوامرها، ثم محاصرة مدينة عفرين الداخلة فى نطاق النفوذ لأكراد سوريا وقوات سوريا الديمقراطية والمشهور أنهم يحصلون على دعم أمريكى كبير ولهم مواقف معارضة أقل شططاً من قوى معارضة أخرى، ولهم أيضاً صلات وتفاهمات مع روسيا.
علمتنا الحياة أن ظواهر الأمور ليست بالضرورة كما هى فى أعماقها الدفينة. فـ«تركيا أردوغان» تؤمن بأن الإقليم ككل منذ أحداث الانتفاضات الشعبية فى عدد من البلدان العربية قد دخلت طور إعادة التشكيل، سواء بإرادة الشعوب الحرة أو من خلال عمليات الخداع والتدخل بأنواعه المباشرة وغير المباشرة. وبالتالى فإن تركيا، حسب قناعة الرئيس أردوغان وكل المؤمنين بما يُعرف بالعثمانية الجديدة، لها الحق فى أن تكون طرفاً مباشراً فى تحديد مصائر الكثير من الشعوب والدول، لا سيما القريبة منها كالعراق وسوريا، ولذلك تدخلت تركيا منذ اللحظة الأولى فى الأزمة السورية من خلال تبنى قوى معارضة بعضها رفع رايات الإسلام نفاقاً ورياء، وبعضها الآخر تحدّث بأسلوب شبه علمانى ديمقراطى وطنى، وكان أن سلحت أنقرة هؤلاء ودربت ووفرت الملاذ والدعاية السياسية والأموال وغير ذلك من أسباب الوجود، كما بعثت قواتها بين الحين والآخر إلى داخل الأراضى السورية ثم سحبتها وفقاً لتطورات الأوضاع العسكرية بعد تفاهمات مع الولايات المتحدة من جانب، وأخيراً بالتنسيق والتفاهم مع روسيا من جانب ثان بعد أن أصبح للكرملين كلمة مسموعة فى الشأن السورى ككل.
فى الآونة الأخيرة زادت مبررات التدخل العسكرى التركى من نوع مواجهة خطر قيام جيب كردى فى الشمال السورى قد يتطور لاحقاً إلى دويلة تنفصل عن الخريطة السورية الرسمية، وبما يقترب من نموذج كردستان العراق فى تجلياته الأخيرة، وهو ما يمثل عنصر تهديد كبير حسب القناعات السائدة فى أنقرة. وأيضاً من قبيل أن المواجهة مع مشروع داعش لبناء دولة خلافة قد أصبحت الآن فى عداد الماضى، والمستقبل القريب نسبياً يشى بأن سوريا باتت أقرب إلى إعادة الترتيب الداخلى حتى لو بقى الرئيس بشار الأسد لفترة انتقالية أو أكثر قليلاً، ومن ثم سيُعاد التموضع الجيواستراتيجى لسوريا ككل، فضلاً عن توزيع الغنائم وإعادة الإعمار، وتلك بدورها كعكة كبيرة لا ينبغى أن تُترك هكذا بدون استعداد وتحضير، وفى كل الأحوال فإن حجم العائد مرتبط بحجم النفوذ القائم على الأرض السورية، وفى هذا السياق لا مناص من منافسة الوجودين الروسى والإيرانى سواء بالتنسيق معهما أو مع واشنطن، والتى يبدو أن إدارتها للملف السورى ذات طابع جزئى ومتردد وفاقد لرؤية مستقبلية محكمة، وفى أكثر الأحوال حظوظاً فإن ما تفعله أمريكا ينصبّ على إعاقة النفوذ الروسى والإيرانى دون أن تقدم بديلاً مقنعاً.
فى تقديرى أن تركيا تخطط للبقاء لسنوات طويلة، وهناك من يناصر الرئيس أردوغان فى الداخل يتحدّث علناً بأن الموصل وكركوك العراقيتين محافظات تركيا، وأن جرابلس وعفرين امتداد لممتلكات الدولة العثمانية التى تم التخلى عنها قسراً حسب معاهدة لوزان 1923، والتى أجبرت الدولة العثمانية ووريثتها تركيا الحديثة على التخلى عن أراض شاسعة، والتى سيمر عليها 100 عام بعد 6 أعوام من الآن، وبعدها كما يُقال فى أنقرة سيكون لتركيا الحق أن تتحرر مما فى هذه المعاهدة من قيود بشأن الأراضى والتنقيب عن النفط والممرات الملاحية الدولية فى البوسفور. وكان أردوغان فى أغسطس 2016 قد وصف هذه المعاهدة بأنها الشوكة الأولى فى ظهر الدولة العثمانية وطالب بمراجعة هذه الاتفاقية لأنها حرمت تركيا من أراضيها وثرواتها. وهناك بالفعل بعض الدراسات القانونية التى تُجرى لتبرير أن احتلال تركيا لأراضى سوريا وربما العراق ليس إلا إعادة تصحيح للتاريخ الظالم. والمقبل أخطر.