أستاذنا يحيى حقى، طيب الله ثراه وتغمده برحمته (١٩٠٥-١٩٩٢) قمة من قمم الإبداع فى أدبنا العربى، وواحد من جيل أخذ على عاتقه تحديث ثقافتنا المعاصرة، وكانت كتاباته، وستظل، منهلاً عذباً ينهل منه كل متعطش للآداب والفنون.. كانت تجربته فى وزارة الثقافة (١٩٥٥-١٩٥٨) -معاصراً لوزيرها المناضل الكبير فتحى رضوان- هى زاوية الأساس فى معظم التوجهات الجادة فى نشاطات هذه الوزارة من خلال رئاسته لمصلحة الفنون عام ١٩٥٥ التى حوّلها لمنارةٍ وأرضٍ خصبة نمت فيها كل الأزهار والبراعم الفنية فى شتى الفروع التى رعتها المصلحة؛ ففيها تم الاهتمام بالفنون الشعبية والموسيقى الكلاسيكية، ومن خلالها بدأ تأصيل الثقافة السينمائية، وما كان ذلك كله ليتحقق من دون وجود يحيى حقى كاتباً، وناقداً، وأديباً، ومتذوقاً، ومفكراً.. ومنفذاً..
ترأس يحيى حقى تحرير مجلة «المجلّة.. سجل الثقافة الرفيعة» فى الفترة من ١٩٦٢ إلى ١٩٧٠، فأصبحت أعدادها سفراً أدبياً وفنياً رفيعاً يضم فى جنباته كل تيارات الإبداع والنقد، زاوج فيها يحيى حقى بين كل الأجيال، ومارس أبوّته الحانية، وكان لروحه السمحة الفضل فى ظهور جيل جديد كامل فى القصة والرواية والنقد والفنون السمعية والبصرية.. كان أستاذاً وصديقاً.. موجّهاً رقيقاً.. ومستمعاً واسع الصدر رحب الأفق.. ولا أحسب واحداً من أجيال المثقفين على امتداد العقود الماضية إلا وفى وجدانه، وفى زاوية من قلبه، شىء من يحيى حقى.
كان مثقفاً عاماً -إذا جاز التعبير- يرى ويسمع ويتأمل ويكتب وينتقد.. فى الموسيقى والعمارة والتاريخ والمسرح والشعر والتشكيل والسينما.
فى الكتاب الذى ضم واحداً وأربعين مقالاً عن السينما بعنوان «فى السينما» يفصح الأستاذ عن عشقه لهذا الفن الجميل، صبياً وشاباً، ثم رجلاً يضيف الرعاية للثقافة السينمائية إلى جوار عشقة الخاص، ويعطى بعضاً من وقته ولغته الآسرة للفن السابع.. ينشئ ندوة خاصة فى مصلحة الفنون باسم «ندوة الفيلم المختار» عام ١٩٥٦، تحولت إلى مدرسة تخرج فيها معظم الجيل الذى يحمل لواء الثقافة السينمائية الجادة.
لم يكتف الأستاذ بالمتابعة والمشاهدة، بل يمارس بقلمه الطواف الرشيق فى عالم الأفلام، ناقداً ذا رؤية ثاقبة وعين فاحصة، ومتذوقاً حصيفاً يتسع صدره لكل ما هو جديد.
فى هذه المقالات نلمح أسلوب يحيى حقى، الذى امتاز به، مزاوجاً بين الفصحى وما يبدو عامياً، ساخراً فى مودة، مداعباً فى رقة، منقباً فى أناة، سمحاً متسامحاً فى أحكامه، مصوراً، البشر والأماكن، بريشة فنان وكلمات شاعر.. فى وصفه لقصر البستان الذى كان يسكنه الأمير أحمد فؤاد، الملك فؤاد بعد ذلك، كان القصر فى باب اللوق وأصبح بعد ذلك مقراً للجامعة العربية ثم هجرته إلى مقرها الجديد وآل فى النهاية إلى متحف العلوم الذى سمح مسئولوه بأن يكون مقراً لعروض «جمعية الفيلم».. يكتب يحيى حقى: «لا أعرف بيتاً مثله ينطق بصراعٍ -كشد الحبل- بين المظهر والمخبر.. فصاحبه قد جمع بين النقيضين: لقب طنّان.. وجيب قشلان، باطه والنجم.. فخرج البيت مَسْخاً متردداً بين قصر فطيس.. وڤيلا مُتورِّمة».
بالقطع، لسنا بصدد تثمين هذه المقالات؛ فهى أثمن من أن نتعرض لها بالنقد؛ فهى فى النهاية انطباعات مثقف كبير، غير متخصص فى السينما، ولا نأخذ عليه من باب العشم بعض الهنات الصغيرة مثل رأيه فى أن السينما ليست من الفنون الرفيعة، وقد يشاركه فى رأيه بعض كبار المفكرين بحكم عدم متابعتهم، أو عزوفهم المبدئى عن التعامل مع السينما باعتبارها فناً، ولا نحاسبه أيضاً على بعض المعلومات غير الدقيقة، أو المغالاة أحياناً فى تقييم بعض الأفلام مثل «المستحيل» لحسين كمال الذى يعتبره بداية السينما فى مصر: «.. نستطيع الآن أن نتنفس الصعداء ونقول أصبح لنا سينما».. مُسقطاً إنجازات عشرات الأسماء الكبيرة فى تاريخ السينما المصرية كـ«شاهين وأبوسيف وبركات وكمال الشيخ وتوفيق صالح» وغيرهم، لكنه لا ينسى أن يشد أذن حسين كمال، محاولاً إعادته لحظيرة التواضع بعد الحفاوة النقدية التى استُقبِل بها فيلمه «البوسطجى» رغم أن الفيلم مُعد عن رواية ليحيى حقى نفسه.
يفيض الكتاب بالعديد من الملاحظات الذكية واللمحات البارعة كفكرة معالجة الشذوذ على الشاشة، ويسخر من شركات التوزيع التى تُغير عناوين الأفلام الأجنبية بغية اجتذاب الجماهير بالتلويح والإيحاء الجنسى، وينبه إلى أن «من حق الرقابة وواجبها أن تمنع مثل هذا التلاعب».. وإذا كان أستاذنا يمنح هذا الحق للرقابة، منعاً لتضليل المشاهد، فإنه يمنع عنها تدخلها فى الأعمال الفنية بدعوى حماية المجتمع من الأضرار.
مقالات الكتاب نموذج رفيع للمنهج الانطباعى فى النقد الذى يستند، بشكل أساسى، على ذائقة الناقد الخاصة وثقافته العامة، وربما بسبب ذلك يذخر الكتاب بطوفان من الحب والعشق للسينما، وصانعيها، وجمهورها ويفوح من مداد سطوره عطر رهيف للأحباب.