كان من حسن الحظ أن وجدت صديقي وقد انتهى من أعماله، أخبرني أنه على مقربة من المكان الذي أقف فيه، وأن الأمر لن يستغرق سوى دقائق معدودات حتى يأتي.
فرحت كثيرا، وفرحت أكثر وقت أن التقيته، تعانقنا طويلا بحرارة تليق بلقاء بعد فراق، فمنذ أكثر من ثلاثة أعوام كاملة لم نلتقِ، أصبح الآن أطول مني قليلا، وترك لشعره العنان فبدى واضح الطول، كما أصبح أكثر مرحا عن ذي قبل.
كان برفقته دراجته السوداء الصغيرة، وثلاثة أكياس بلاستيكية، وصديق باكستاني، لم تكن شقته بعيدة عن وسط المدينة، ولكنها كانت بعيدة عن سطح الأرض، قريبة من السماء، كانت في الطابق الرابع ولم يكن في البيت الضارب في القدم مصعد كهربائي. من نوافذ الشقة الزجاجية الكثيرة يمكنك أن ترى أسطح المنازل بوضوح، والشقة صغيرة، مرتبة، دافئة، حوائطها وأرضيتها وسقفها من الخشب.
فتحنا الأكياس الثلاثة فأخرجنا منها خبزا تركيا، وثلاث علب حديدية محكمة الإغلاق، الأولى: بها فول مدمس، والثانية: بها بابا غنوج، والثالثة: بها لحم البيف. تعاونا سويا في صنع طعام مصري خالص، حبسنا بعده بشاي كشري، أعاد معه ذكريات مصرية ذات مذاق خاص، تعجب منه وله الشاب الباكستاني، ثم جلسنا نستمتع بصوت فيروز الدافئ حتى غلبنا النعاس فنمنا.
استقيظت فوجدت الشاب الباكستاني وقد انصرف، ووجدناها فرصة كي نخرج إلى المدينة نتجول في أروقتها، لا سيما وأن أشعة الشمس الذهبية بدأت تغازل شقة صديقي.
في شوارع المدينة الواسعة سنحت لى الفرصة أن أسأل صديقي عن أحواله، وماذا فعل في السنوات الثلاث الماضية، كان من الواضح تأثره الكبير بالحياة الألمانية، تأثرا لا يخفي معه انتقاده لحياة المسلمين عامة وحياة المصريين بصفة خاصة، ولم يقف نقد صاحبي عند ذلك الحد بل تعداه لما هو أبعد من ذلك، فبدأ ينتقد علماء الدين المسلمين ومشايخهم كاشفا عن تناقضاتهم وتمسكهم بالقديم البالي، وتحجرهم بالفتاوى التي لم يعد لها صلة بالواقع المعاش، بل وكهنوتهم الذي باتوا يفرضونه على أتباعهم.
لم يكن صاحبي من أولئك الذين يرددون ما يسمى "بالشبهات" من دون علم أو قصد، بل رأيته قارئا مدققا واعيا بما يقول، وقد خشيت أن يكون تيار الإلحاد قد جرفه إلى واديه السحيق، بعدما رأيته وقد ترك الصلاة منذ أمد، وجرب لذة الاستمتاع ببنات أوروبا، وذاق الخمر فلعبت برأسه في كل الملاعب، ولكن هيهات هيهات للإلحاد؛ فالإلحاد كما قال لي صديق آخر ليس من السهل الوصول إليه أو على حد قوله: "الإلحاد أصعب من الإيمان".