«ده مش رسام سجاد.. ده كاتب ومشروع أديب»
كان المكان خانقاً وشديد الظلام إلا من بقعة ضوء تسربت من النافذة الصغيرة، حاول أن يسترخى ففشل، أسند رأسه على حائط زنزانته ونظر إلى الشباك أملاً فى أن يرى القمر أو يجد نسمة هواء تخفف عنه لكنه لم يجد، استسلم لتعبه رغم عرقه الذى يتصبب وأغرق وجهه وجسده.
شعر بألم وهو يتحسس جروحه الغائرة من آثار التعذيب الوحشى الذى يتعرض له منذ أسبوع، حاول أن يندمج مع باقى المساجين فى الزنزانة الذين حاولوا كسر الملل بالغناء لكنه لم يستطع، أغمض عينيه وأطلق العنان لذكرياته، تذكر طفولته فى حى الجمالية وسط الفقراء والناس الطيبة.. تذكر عمله فى تصميم السجاد وصبغه.. «يااااه كم كان متعباً لكنه جميل». تذكر كيف تكونت ثقافته من الاحتكاك بكل الفئات حيث أتاح له عمله كمفتش على مصانع السجاد زيارة كل قرى مصر، تعمقت شخصيته بهذا الاحتاك غير المباشر ورسم فى خياله كل شخصية قابلها وتحدث معها.
- ما لك يا عم إيه التوهان ده؟ إنت تهتمك إيه؟
قالها أحد زملائه فى الزنزانة وهو يربت على كتفه فرد:
- تهمتى عضو فى تنظيم ماركسى سرى.
- يعنى إيه.. شيوعى؟.. أعوذ بالله.
قالها زميله قبل أن يدير وجهه عن هذا السجين السياسى وهو يتمتم: «روح لحالك».
الليلة طويلة والملل يتسرب إلى نفسه، بحث وسط أشيائه عن ورقة وقلم، كتب قصيدة قصة.. كتب يوميات شاب عاش ألف عام، لم يكن يدرى أن الألم يزيد الإنسان إبداعاً وأن الإبداع الحقيقى يولد من رحم الألم، كانت كتاباته التى جمعها فى المعتقل بداية لحياته الجديدة.
وقع الكتاب فى يد المفكر الكبير محمود أمين العالم، سأل عنه، فعرف أنه مسجون سياسى فقال: «ده واضح جداً من كتاباته.. ده مش رسام سجاد.. ده كاتب ومشروع أديب هيغير شكل الرواية المصرية».
انتظر «العالم» خروج السجين من محبسه وترك له خبراً بالذهاب إليه فى دار «أخبار اليوم»، من زنزانة شديدة الضيق إلى مؤسسة صحفية عريقة خطا خطواته الأولى وهو يشعر أن دقات قلبه سوف تتوقف، فهو فى واحدة من أقدم وأعرق المؤسسات الصحفية فى مصر، وعندما وقف أمام محمود أمين العالم شعر أنه يحلم ولم يصدق عندما طلب منه الانضمام إلى المؤسسة فى القسم الأدبى.
«أنا عاوز أكون مراسل حربى».. قالها لـ«العالم» فلم يتصور أن يوافق ويقضى سنوات على خط النار فى حرب أكتوبر، ينقل بدقة ما يحدث ويقترب أكثر من شخصيات المقاتلين، ويكتب عن أدب المعارك، وعندما انتهت الحرب انتقل إلى القسم الأدبى حتى صار رئيساً له.
أعماله توالت بعد ذلك.. روايات وقصص قصيرة.. حقق شهرة واسعة فى هذا المجال وأحب أعماله الكثير والكثير وتوالت معه نجاحاته حتى أصبح رئيس تحرير.
إنه الروائى الكبير جمال الغيطانى