كانت الأيام الثلاثة التالية صعبة بكل ما تحتمله حروف الكلمة من معانٍ، كانت صعبة صعوبة الصقيع القارس وأنا أقطع المسافة بين لونا وفتشتا بالدراجة فيما يقترب من الساعة، وكانت أصعب وقت أن بلت الأمطار جميع ملابسي ولا مكان للاختباء تحته، وكانت أصعب وقت أن جالت بخاطري أفكارا توحي بأنني سأترك الشقة حال رفض صاحبها أو بالأحرى أصحابها التوقيع على العقد، فكيف لي أن أترك سباستيان ودانيال بعدما تعرفت عليهما وبعدما صرنا أصدقاء؟ وكيف لى أن أترك لونا بعدما تبين لي أنها تستحق!
لم تكن صعوبة الأيام الثلاثة تمر بطيئة عليّ وحدي، بل عان من بطئها كلٌ من سباستيان ودانيال، وكانت على سباستيان أكثر، إذ أنه هو من تولى أمري منذ البداية، وهو من اتفقت معه على كل الأمور، وهو من يشعر الآن بالذنب لأن أوراقي تأخرت.
عدت بالذاكرة قبل شهر من الآن، فتذكرت أول حوار دار بيني وبين سباستيان، كانت كل المعطيات تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي أنني لن أسكن معهما، ولكن شيئا ما حدث اضطرني أن أكتب إلى سباستيان رسالة قصيرة من كلمتين: سأسكن معكما.
بدأت القصة عندما بعثت لنا مسئولة الأجانب بجامعة فيشتا رسالة تخبرنا فيها أن علينا البحث بأنفسنا عن غرفة في مدينة فيشتا، وأعطتنا عنوان صفحة يعلن فيها أصحاب الشقق عما لديهم من غرف جاهزة للإيجار. كانت الاختيارات قليلة جدا، وجاء معظمها غير مناسب، لا سيما وأنني أردت أن أبتعد عن السكن مع من يتحدثون العربية، ويا حبذا لو سكنت مع من يتحدثون الألمانية بطلاقة، أو مع من كانت الألمانية لغتهم الأم.
أرسلت ثلاث رسائل جاء الجواب على اثنين منهما بالرفض القاطع، واعتذرت الثالثة بأدب معللة اعتذارها لعدم وجود مرتبة، أخبرتها بأنني يمكنني حل هذه المسألة، إما بشراء مرتبة جديدة أو باستئجارها أو حتى باستعارتها. أجابت بأنها ستستأذن من تسكن معهم، وأن علي أن أُجري معهم جميعا مقابلة عبر الاسكايب حتى يعرفوني. لم أمانع في ذلك، وبدأت أعد نفسي لهذه المقابلة، ومرت عدة أيام من دون رد، فبعثت برسالة أخرى، جاء الجواب عليها صادما: زملائي يرفضونك!
كنت أعرف أن اسمي العربي يلعب دورا كبيرا في الرفض، ولكنني لم أيأس من البحث، أو إن شئت فقل: كنت أضع نفسي في مكان الرافضين؛ فهناك ألف سبب وسبب يجعلهم يرفضون سكن عربي مثلى لا يعرفون عنه شيئا؛ خاصة وأن أحداث تحرش بعض العرب في مدينة كولونيا بفتيات ألمانيات لم يمر عليها سوى أسابيع قليلة.
كان إعلان سباستيان عن غرفة شاغرة في شقة مكونة من ثلاث غرف يسكنها اثنان من الألمان بمثابة طوق نجاة أمسكت به بشدة، وعلى الرغم من بعد المسافة بين لونا وفيشتا إلا إنني لم أجد بدا من القبول. تراني الآن قد أخطأت الاختيار، أم أن الأمور ستسير على ما يرام. سنرى!
انتهزت فرصة شعور سباستيان بالذنب جراء تأخير أوراقي عند بلدية لونا، وأخبرته أنني سوف أتأخر عن دفع إيجار الشهر الجديد حتى أتقاضى راتبي من الجامعة، فوافق على الفور.