التسبيح عبادة.. والسِّبَح صنعة
يجلس على ماكينته، تتهلل سريرته فور أن يقبض على تلك الخرزة الدائرية، فيعاملها بكل احترام وتبجيل، تنتقل من يده إلى يد عابد زاهد يمررها بين أنامله فيما يتعطر فمه بالتسبيح والحمد والتكبير، وتارة تجدها تزين صدر سائحة جاءت من أقصى بلاد الغرب، أعجبتها أحجارها وألوانها فاتخذتها حلية على جيدها، ولم تنسَ أن تشترى واحدة أخرى لصديقها يضعها سوارا فى يده كتميمة حظ من أرض الفراعنة، لا يعبأ «شديد» بطريقة الاستخدام والنوايا، فقط ينصب همّه على تلك الجنيهات القليلة التى لم تعد تكفى قوت يومه، فى الوقت الذى يأبى فيه أن يترك صنعة الأب والأجداد بغير راع.
اسمه عاشور الناجى، سمّاه والده بذاك الاسم المركب تيمنا بفتوات الماضى، ورث المهنة عن والده «السيد شديد»، ومنذ بلوغه الحادية عشرة من عمره اصطحبه الأب من وسط اللعب مع الأطفال ليقع الصبى فى هوى السبحة التى منعته حتى من إكمال تعليمه فاكتفى بالشهادة الابتدائية.. يتذكر بابتسامة الأيام الأولى لدخوله الكار «الصناعة كانت فى الأول يدوى.. أبويا كان بيمسك الوتر ويعمل السبحة من أولها لآخرها»، قبل أن يتحسر على أيام الزمن الجميل وحال مهنته التى أصابتها عدوى فيروس «الصينى» الذى أحال أصحاب المهن اليدوية على المعاش مبكراً داخل ذلك الزقاق الضيق الذى كان يوماً من الأيام مزاراً للأفواج السياحية.
«الزبون لما بيسبّح مبيفرقش بين الصينى والمصرى».. يقولها «عاشور» بمرارة تشق جيوبه الخاوية ويقول: «الواحد لما بيروح السعودية بيجيبله دستة السبح الصينى بـ20 جنيه.. لكن السبحة المصنوعة يدوى قيمتها 30 جنيه.. فطبيعى الحال يقف».
لم يفكر يوماً فى الابتعاد عن خط سيره الذى رسمه والده وقبله جده، حتى أولاده الطلاب الجامعيون ظل يمسك بأيديهم ليشربوا الصنعة، صناعة السبحة تمر بالعديد من المراحل: «فى الأول بتكون مادة خام بلاستيك أو خشب وبعدين بتتكور وتتصنفر وفى الآخر بتتلمع».. قبل أن يُضيف أن غلاء أسعار الخامات هو السبب الرئيسى فى ارتفاع سعر السبحة اليدوية: «السبحة الواحدة ممكن تاخد فى إيدك من 3 إلى 8 ساعات».
«طول ما صنعتك فى إيدك قرشك فى جيبك».. كلمة خرجت من فم «شديد» الكبير، فاستقرت فى يقين الطفل «عاشور» ووضعها حلقة فى أذنه لذا لم يندم يوماً على الإمساك بقطع الخرز الروحانية، التى يعتبرها فى مقام ابنته «معرفش أشتغل حاجة تانى.. الصناعات اليدوية عاوزة تشجيع».
الثورة، التى هلل لها الجميع، كانت سبباً فى قطع رزقه فالسياحة «انضربت» والعرب خاصمت أقدامهم تراب مصر، فلم يعد متبقيا أمامنا سوى المصريين: «السبحة فنطازية.. وكمالة الكماليات.. يعنى اللى معاه فلوس زيادة بيشتريها.. والشعب فقير... والسياح والعرب يدوب بيتفسحوا».. حتى آمال التصدير تحطمت على صخرة الأتراك الذين أتقنوا هذا الفن بمهارة: «تركيا عندها صناعات مميزة.. إحنا بالنسبة لهم ولا حاجة والسبب أنهم بيصنعوا السبحة يدوية 100%».