أوراقهم تحكي1| عباس حلمي الثاني: دُعمـت بالحسين.. ودنشواي ذعرت الإنجليز
الخديوي عباس حلمي
"عهدي".. الاسم الذي اتخذه الخديوي عباس حلمي الثاني، عنوانا لمذكراته التي كتبها بعد مضي ربع قرن على تنحيته عن المسرح الدولي، وكخديوي لمصر خلال 22 عامًا، من 1892 حتى العام 1914، ولم يشعر بتعجب لاضطراره "أن يرسم بيده لوحة عمله كحاكم".
في 346 صفحة، روى الخديوي عن كواليس عصره، وما تخللها من قرارات وأحداث، وهو الذي قال عنه اللورد كرومر: "الخديوي الشاب سيكون مصريًا للغاية"، حيث تولى بعد وفاة والده الخديوي توفيق بيومين، وكان حين الوفاة في فيينا لاستكمال دراسته.
درس الخديوي عباس في الخارج، ولم يقض في مصر إلا فترة طفولته، حيث وُلِد في 14 يوليو 1874 في سراي نمرة 3 بالإسكندرية، ولم يكن يتقن في صغره غير الإنجليزية والتركية، حتى بنى والده من أجله وشقيقه محمد علي، مدرسة إلى جانب قصر عابدين، لها حديقة كبيرة، لتستقبل 100 طفل من الأسر الراقية، وكانوا يعلمونهم مجانًا ويمنحونهم الغذاء، وهناك تعود أن يعيش بين أولاد مصر ويتحدث لغتهم.
الحاكم السابع من سلالة محمد علي، تحدث في مذكراته عما أسماه "أول مظاهرة للصداقة من جانب شعبي" منذ وصوله إلى مصر، حيث ذهب لأداء صلاة الجمعة في مسجد سيدنا الحسين بعد بضعة أيام من قراره بتبديل رئيس مجلس النظار مصطفى فهمي "رجل الإنجليز"، على حد وصفه، بشخصية أخرى يختارها، ليصف أنه تأكد لأي درجة أحسن الأهالي ما فعل وقدّروه.
يروي عباس حلمي الثاني مشهد المظاهرة: "تجمع الطلاب تحت أقواس مقاهي ميدان العتبة الخضراء أمام المحكمة المختلطة، وعلى بُعد مئات الخطوات من المسجد، كانت هناك مجموعة أخرى معروفة بشدة وطنيتها، تقف حول ضريح السيد حسين القصبي، وكانت جماهير غفيرة تصل وبطريقة غير معهودة في مثل هذه المناسبات من جميع الشوارع المجاورة، وكانت المظاهرات رائعة، والهتافات والتشجيع يدوي دون إخلال بالنظام، وكانت الجماهير المتحمسة والمجمعة تتعلق بعربتي وتجرها في شوارع الموسكي، ورغم تلقائية هذا التعبير وقوته، فإن النظام لم يضطرب، وتركت المسجد بعد الصلاة وسط جماهيرية وقورة المسلك ومنضبطة".
من بين الأحداث السياسية التي يعرفها المصريون، ودوّنتها كتب التاريخ، كانت هناك أحداث مست القلوب، كتلك التي لا تفارق الذهن، وهي حادثة "دنشواي"، إلا أنه أظهر من خلال مذكراته الجانب الخفي فيما ذكرته الكتب، حيث علم الخديوي عباس حلمي الثاني بالحادثة "برقيًا"، حيث كان في فيينا لقضاء عطلته: "فقد الجميع تحكيم العقل عند النطق بالحكم من جانب المحكمة المخصوصة، وكان كبار الموظفين الإنجليز في عطلة، وكان الجنرال الذي يقود القوات غائبًا، ومن المرجح أن هذا الذي حل محله كان متطرفًا، طائشًا، فعقد من الأحداث حتى وقعت المأساة، ولم يفهم مساعد لورد كرومر أهمية المسؤوليات التي يأخذها على عاتقه".
ذكر عباس حلمي الثاني، تأثره إلى حد بعيد، سواء بسبب الأحداث التي أبلغت له، أو بسبب موقف الحكومة المصرية، ليرى أنه كان طبيعيًا أمام حماقة الإنجليز وتصرفهم الوحشي، أن يكون رد فعل الاتجاه الوطني المصري من نفس حجم الجرم الإنجليزي حرصًا على كرامتهم، مشيرًا إلى أن المسؤولين المصريين قدّموا للدولة المحتلة أكثر مما كانت تحلم به أو تجرؤ على طلبه، لكن إنجلترا لم تلمس من هؤلاء السادة أي مقاومة.
"أعترف أن ذلك كان يمثل لي ألمًا حقيقيًا وكبيرًا، اضطربت ليال لفترة طويلة، ولم تعطني سرعة تدخل الإنجليز ولا ضعف الحكومة المصرية الوقت اللازم للتدخل في الوقت المناسب".. هذا نص ما كتبه الخديوي، الذي كان يحكم مصر وقت وقوع الحادث في العام 1906، ويقول إن الصحافة الإنجليزية نفسها أشارت إلى البؤس الذي كان الفلاحون المصريون يعيشون فيه، وإلى جهلهم وقلة ثقافتهم، وإلى الاستفزاز الذي أثار حفيظتهم، كما نبهت أيضًا إلى ما تم عند القبض عليهم وتسليمهم للمحاكمة خارج نطاق القانون، دون التزام العدالة، حتى أن نفذت فيهم الأحكام المختلفة.
ما بعد هذه الأحداث كان المشهد الذي وصفه الخديوي، قائلا: "سادت جيش الاحتلال حالة جنون، فظل في ثكناته أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد أحد يراه، ولما كان يضطر مثلًا ولظروف قاهرة إلى أن تتحرك وحداته من مكان لآخر، كانوا يعلمون سريعًا كل السلطات المصرية المكلفة بإدارة المركز الذي ستتحرك فيه، وكان على السلطات المدنية المصرية أن تؤدي مهمة حماية جنود قوات الاحتلال، وكنا نشاهد مناظر عجيبة: فكان الجنود المسلحون بالبنادق والمدافع والمدافع الرشاشة يسيرون في الشوارع مثل طوابير الأسرى تحت النظرة الساخرة للفقراء المسلحين بعصى وكانوا يحمونهم من أي اعتداء".
وفي المساء، يقول الخديوي: "وفي معسكراتهم كان الجنود البريطانيون مزودون بمجموعة من الفقراء، الذين يسهرون طوال الليل لتحاشي وقوع أي ضرر أو إضرار بهم".