الشيخ أحمد ندا.. رائد فن التلاوة
الشيخ أحمد ندا
فى مساء يوم مبهج من أيام عام 1852، وداخل منزل أسرة بسيطة فى حى البغالة بالقاهرة، أطلّ على الدنيا وجه جديد، سيقود مدرسة التلاوة فى العصر الحديث، إنه أحمد ندا.
جاء أبوه من المحلة الكبرى بالغربية، ليعمل مؤذناً بمسجد السيدة زينب رضى الله عنها بالقاهرة، حفظ الطفل أحمد ندا القرآن مبكراً، لتظهر موهبته فى القراءة سريعاً، وعندما بدأ الشاب طريقه فى عالم التلاوة، كان فى مصر ثلاثة قراء كبار هم: محمود القيسونى، وحسن الصواف، وحنفى برعى، والأول كان مؤذن مسجد الخديوى، ولم يكن يتقاضى أجراً على القراءة فى المناسبات، ليصبح «ندا» ثالث المشاهير الثلاثة، ثم تخطت شهرته الشيخين «برعى والصواف».
لم يكن الميكروفون قد ظهر بعد، فكانت قوة الصوت معياراً أساسياً لجمال أداء القارئ، وهو ما تميز به الشيخ ندا، فقد ورث صوتاً قوياً عن والده. يقول الكاتب والأديب المؤرخ عبدالعزيز البشرى (1886-1943) فى كتابه «المختار»: «الشيخ أحمد ندا كان يقرأ فلا يلتزم لوناً واحداً، وإنما يتجول بين فنون من التنغيم ليلتمس أندر جمالياتها وأصعبها أداء، فاكتسب شهرة فى اصطياد المبتكرات، وفى الإبداع بالتجديد غير المسبوق، وتتلمذ عليه الكثيرون، حتى استحق أن يتصدر ريادة المقرئين فى ذلك العصر».
طريقة «ندا» الجديدة فى التلاوة فجّرت ثورة بعض المشايخ عليه، لكنه واصل النجاح والانتشار، وقلب موازين أجور القراء، فوصل أجره عام 1915 إلى «جنيه»، فيما لم يتجاوز أجر الشيخ محمد رفعت خمسين قرشاً، وحسب ما ذكره الكاتب الكبير محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء»، وصل أجر الشيخ ندا إلى 5 جنيهات، ثم إلى 10 جنيهات و40 جنيهاً، حتى وصل إلى 100 جنيه ذهب.
أنفق الشيخ ندا بسخاء واشترى منزلاً فاخراً يجتمع فيه الأدباء ورجال السياسة، وكان يتجول راكباً حنطوراً تجره 6 خيول، يقول «السعدنى»: «الحسد جعل البعض يوغر نفس الخديوى من هذا المقرئ صاحب العربة التى تجرها 6 خيول، فكيف يجرؤ رجل مصرى من طبقة فقيرة ومعمم على الظهور فى موكب مثل موكب الخديوى، ليصدر فرماناً بأن يكتفى الشيخ ندا بزوج واحد من الخيول يجر عربته، وتصادر العربة والخيول إذا أصر الشيخ على الظهور فى نفس الموكب، وآثر (ندا) أن يتحاشى حماقة الخديوى، فاكتفى بحصانين اثنين لجرّ عربته، وتسبب فرمان الخديوى فى ازدياد شعبية الشيخ».
لكن القدر حرم مستمعى القرآن من الاستمتاع بصوت الشيخ ندا، لأنه رفض بشدة تسجيل القرآن الكريم على أسطوانات، وقال: «لا يليق أن يُحمَل كلام الله فى أسطوانات يتداولها الناس وتحملها أيدِ قذرة وتلقى بها أحياناً على الأرض».
ما العمل إذاً؟! لن يجد المحب للقرآن، سوى كلمات الشيخ عبدالعزيز البشرى لتصف لنا صوت الشيخ ندا الذى لم نسمعه، يقول: «أبدع الشيخ أحمد ندا فى فن ترتيل القرآن بِدَعاً لا عهد للناس بها من أول الزمان، فالشيخ ندا من المواهب العظام، وهؤلاء أشبه بالقُمْرىِّ إذا سجع وغرّد، وبالجدول إذا تعطّف فى الروض وتأوّد، وبالبدر إذا استوى فأشرق نوره، وبالورد إذا تفتح فسطع عبيره، وكان صوته قوياً شديد القوة، يرتفع إلى ما تنقطع دونه علائق غيره من الأصوات، وكان مع هذا عريضاً بعيد العرض».
وظل الشيخ يصول ويجول تالياً كتاب الله حتى صعدت روحه إلى بارئها سنة 1932، بعد أن صار رائداً لفن التلاوة الحديثة.