يوميات صحفية مصرية فى سجون المخابرات السودانية (4)
بعد غفوة استمرت ساعتين أيقظتنى يسرا وأخبرتنى بأننا سوف نذهب إلى الفندق لحزم حقيبتى وإحضارها إلى شقتها وأن صديقاً لها يمتلك سيارة «أمجاد» أى سيارة ميكروباص صغيرة حمولة 4 أفراد سوف يمر علينا لتوصيلنا إلى الفندق وبالفعل بمجرد أن غيرت ملابسى وصل صاحب السيارة.
وصلنا إلى الفندق فى الثانية عشرة مساء ولم يستغرق حزم أمتعتى سوى نصف الساعة بعدها عدنا إلى المنزل وجلست الفتاة الثلاثينية تحكى لى عن حياتها الشخصية فهى من مواليد 1983 ولدت فى الولايات المتحدة الأمريكية أثناء سفر والدتها لتحضير دراسات عليا ورغم انتهاء البعثة الدراسية لوالدها فإن السفير السودانى أمد إقامة أسرتها لمدة 7 أشهر حتى تتحمل الطفلة الرضيعة مشقة رحلة الطيران.
يسرا طالما تتكلم عن والدها الذى شغل منصب النائب العام فى الخرطوم حتى عام 2008 بفخر شديد، فهو الوالد المتفتح الذى يترك لابنته حرية الحركة والسفر بل والإقامة بمفردها بعد انفصالها عن زوجها، ترفض المظاهر الشكلية أو التدين الشكلى، تحكى عن كم المضايقات التى تتعرض لها من قبل نظرات زملائها فى العمل؛ لأنهم لا يرونها تصلى قائلة: «الصلاة علاقة ربانية بين العبد وربه وأنا لا أترك فرضاً إلا وأؤديه وأرفض تماماً التدين الشكلى فالتدين تدين القلب والعقل».
يسرا لا تنتمى لأى حزب أو حركة سياسية ولكنها غير راضية تماماً عن الأوضاع السياسية والاقتصادية التى تمر بها بلدها فى ظل حكم البشير، فالأوضاع الاقتصادية أصبحت لا يرثى لها وخاصة بعد سياسات التقشف التى أعلنتها الحكومة وهو ما أدى إلى رفع الدعم عن بعض المنتجات فى الوقت الذى ظلت فيه الرواتب كما هى.
تسترخى يسرا على سريرها، وهى تمسك بيدها اليمنى الموبايل تتابع ما يحدث لحظة بلحظة على شبكة التواصل الاجتماعى «الفيس بوك» تهتم بأخبار النشطاء والسياسيين تقول: لقد تم اعتقال شاب فى حركة «قرفنا» وشابة فى الحزب الشيوعى وفى اليد الأخرى تمسك بسيجارة تكاد لا تدخن منها إلا القليل، فصدرها التعب يقف حائلاً بينها وبين التدخين قائلة: «تعرفى إن عندنا البنات ممنوع تدخن ولو دا حصل ممكن تتحبس؟».
لم يكن التدخين وحده هو الممنوع وغير المرحب به فى السودان وخاصة للفتيات، فالملابس أيضاً لا بد أن تلتزم بمبادئ الشريعة والجهة الوحيدة التى من حقها تقييم ملابس المرأة السودانية هى «النظام العام» وهو ما أخبرتنى به يسرا عندما ارتديت ملابسى المكونة من جيب وبلوزة قصيرة حيث قالت لى: «هذه الملابس ملفتة للأنظار.
ويمكن أن يوقفك رجال النظام العام» ثم دخلت إلى غرفتها وأحضرت لى توباً سودانياً وبدأت تعلمنى كيف ألتف بالتوب لدرجة جعلتنى أحترفه.
يسرا تقول: لا يوجد معايير معينة لملابس الفتيات، فعندما ارتدت الصحفية لبنى البنطال حاكموها وحكموا عليها بالجلد، رغم ذلك توجد فتيات فى السودان يرتدين البنطال دون أن يوجه لهم أحد أى تهمة، فرجال «النظام العام» وحدهم هم القادرون على تحديد الملابس اللائقة بالمرأة السودانية، تتركنى يسرا للحظات تقوم خلالها بتحضير فنجانين من الشاى باللبن ومعهما رقائق البسكويت بالفانيلا والشيكولاتة معتذرة عن عدم وجود عشاء فى منزلها فهى قلما تأكل فى البيت.
تنظر يسرا فى ساعتها التى قاربت على الثالثة من منتصف الليل «هسيبك ترتاحى، اليوم كان طويل وبكرة نقعد مع بعض براحتنا يوم السبت أجازة رسمية فى السودان».
استيقظت ظهر السبت على صوت يسرا وهى تحاول تجميع أوراقها اللازمة لاستخراج جواز سفر أمريكى وخاصة بعدما فقدت شنطتها بما تحتويه من نقود وجواز سفرها فهى تسعى للسفر إلى ولاية دالاس الأمريكية أملاً فى الحصول على منحة دراسية فى مجال الصيدلة بعدما فشلت فى الحصول عليها فى القاهرة والخرطوم، فالحصول على منحة دراسية فى البلدين شبه مستحيل؛ لأنها تتكلف مبالغ مالية كبيرة فضلاً عن أن مفهوم الصيدلى يقتصر على بيع الأدوية وتركيب بعض الأدوية البسيطة.
أصعب ما يؤلم يسرا هو قرار الحكومة بتحرير أسعار الأدوية لترتفع أسعارها أضعافاً مضاعفة ويصل أقل دواء فيها إلى 11 جنيهاً سودانياً، فى حين أن مرتبات العاملين بالدولة تتراوح ما بين 300 و500 جنيه، فيسرا التى تعمل صيدلانية فى مستشفى قطاع عام ومواعيد عملها تبدأ فى التاسعة صباحا وتنتهى فى الثالثة عصراً بلغت 300 جنيه لا تكفيها فى تغطية مصاريف الطعام والشراب بحسب قولها.
بعد صلاة المغرب، طلبت منى يسرا ارتداء التوب السودانى برتقالى اللون، ونزلنا إلى السوق لشراء بعض مستلزمات المنزل، وتوجهنا إلى أحد محال السوبر ماركت الكبيرة وقمنا بشراء علبة من الجبن وكيسين من رقائق البطاطس وقطعتين من الشيكولاتة وزجاجة بيبسى لنجد حسابنا وصل إلى 70 جنيهاً، نظرت إلى يسرا مبتسمة محاولة التأكيد على كلامها بارتفاع زيادة الأسعار.
قائلة: «مرتبى 300 جنيه صرفت منها 70 جنيه على علبة جبنة وشيبسى وشيكولاتة فكيف تتوقعين منى أن أتعايش بـ300 جنيه»، ولمن لا يعرف فإن الجنيه السودانى يساوى جنيهاً وعشرة قروش مصرية.
عدنا إلى المنزل بعلبة الجبن ورقائق البطاطس والشيكولاتة وأثناء صعودنا على سلم العمارة تذكرت اسماً تناقله النشطاء سودانيون على موقع التواصل الاجتماعى «تويتر» دون أى تفاصيل عنه، سألت يسرا: «هل تعرفين فتاة اسمها عوضية؟» أجابتنى يسرا بإيجاب مصحوب بحماسة شديدة لم أرها فى عينيها من قبل، حكت لى قصة الفتاة التى قتلت ضرباً بالرصاص من قبل قوات الشرطة عندما كانت تدافع عن أخيها ولكن رصاصة استقرت فى رأسها جعلتها ذكرى فى قلوب وعقول الشباب السودانى الذى يعتبرونها «خالد سعيد» السودان، فكل منهما مات ظلماً وبطشاً على أيدى الشرطة.
سألت يسرا: «كيف أستطيع الوصول إلى عائلها، فأنا متشوقة لمقابلتهم ومعرفة حقائق حادثها»، أخبرتنى بأنها لا تعرف مكان أسرتها وكل ما تعرفه أنهم يسكنون فى منطقة شعبية تسمى «الديوم» وهذه المنطقة شهدت احتجاجات عدة بعد مقتلها حيث استمرت المظاهرات لمدة 3 أيام، وعندما تمت الدعوة لجمعة ما قبل «لحس الكوع» أشعل أهلها النيران فى إطارات السيارات وخرجوا فى مظاهرات عنيفة.
بعد تفكير ليس بطويل وعدتنى يسرا بأنها سوف تسأل أصدقاءها عما إذا كانوا يعرفون أحداً فى منطقة الديوم أم لا وخاصة مع صعوبة هذه المنطقة نظراً لتخوف الناس من الغرباء بالإضافة إلى قوات الأمن التى تطوق المنطقة بأعداد كبيرة. مر يوم السبت بأمان ويلقى الأحد بأمطاره الغزيرة على بيوت الخرطوم وهو الأمر الذى لم ألاحظه نظراً لوجودى داخل الشقة وهو ما أخبرتنى به يسرا عندما تأخرت فى عملها إلى الخامسة مساء بدلاً من الثالثة عصراً، لم يمر لحظات على مكالمة يسرا حى هاتفنى زميلى على المالكى المصور بجريدة «المصرى اليوم» وأخبرنى بأنه قدم إلى الخرطوم مساء أمس وسوف يذهب اليوم لاستخراج تراخيص العمل.
قلت «لعلى» حاول معرفة الأوراق المطلوبة والإجراءات اللازمة فأنا لن أتمكن من النزول اليوم نظراً لوجود أمطار كثيفة وبعد المكان عن مدينة الخرطوم وعدم درايتى بالإجراءات اللازمة وأخبرته بأنه كمصرى يستمتع باتفاقية الحريات الأربع والتى تعطى للمصرى حرية الحركة والتنقل والعمل والإقامة فى السودان على أن يحصل السودانى على مثل هذه الحقوق فى مصر وهو الأمر الذى أكده لى عدد كبير من الصحفيين بالإضافة إلى يسرا.
لم أعرف لماذا كان يحاول زملائى من الصحفيين السودانيين ممن تعرفت عليهم يوم الأربعاء الماضى بإقصائى عن استخراج تصريح العمل إلا بعدما قابلتهم قبل يوم من إلقاء القبض على وهو ما سوف أذكره لكم فى الحلقات القادمة بالإضافة إلى قصة زميلنا «على» مع الإجراءات المطلوبة والتى استغرقت منه 4 أيام دون جدوى وانتهت بزيارة للمخابرات السودانية له هو وزميلته عزة مغازى فى الفندق التى قالت لهما: «إنكما شخصان غير مرحب بكما فى السودان ويجب عليكما مغادرة الأراضى السودانية غداً».