يوميات صحفية مصرية فى سجون المخابرات السودانية (5)
فى الخامسة عصر الأحد، جاءت يسرا تزف إلىّ نبأ توصلها إلى شخص من منطقة الشهيدة عوضية (منطقة الديوم)، وأنه على استعداد أن يوصلنا إلى منزلها، ومقابلة أخيها، لم تذكر يسرا أية تفاصيل أخرى، وطلبت منى الاستعداد للخروج لتناول الغداء واقترحت عليها أن نذهب إلى محل يدعى «صاج السمك»، وهو محل مشهور بتقديم السمك المقلى والمشوى من أسماك النيل التى لها مذاق مختلف لم أرَ له مثيلا.
اندهشت يسرا من معرفتى لهذا المطعم فأخبرتها أن «الأسباط» سبق أن أخذنى إلى هذا المطعم من قبل، ابتسمت يسرا وأخبرتنى بأن حظى سعيد لأن سيارتها معها، خصوصا أن هذا المطعم يقع فى مكان بعيد عن البيت. وأثناء وجودنا فى المطعم أخبرتنى يسرا بأننا سوف نذهب للقاء شقيق عوضية غداً.
لم تنتهِ يسرا من كلماتها حتى قاطعها صوت هاتفى فإذا بأحد النشطاء (نحتفظ باسمه) يبلغنى بأن نجلاء السيد أحمد، وشهرتها «نجلاء الشيخ»، وهى من أشهر المدونات السودانيات والمعروف تبنيها لقضايا المعتقلين السودانيين، جرى نقلها إلى مستشفى الخرطوم التعليمى وأنه سوف ينظم لى معها موعداً غدا الاثنين.[Quote_1]
انتهت المكالمة، وأخبرت يسرا بما دار فيها، فقالت إن زيارة نجلاء ستكون أمراً سهلاً، خصوصا أنه يمكن زيارتها فى أوقات الزيارة المحددة بالمستشفى، التى تمتد إلى السادسة مساء. انتهينا من عشائنا وتبعناه بالمشروب السودانى الشهير «التبلدى» ثم عدنا إلى منزلنا فى منطقة بحرى استعداداً للغد.
فى صباح الاثنين تلقت يسرا اتصالاً هاتفياً من الشاب الذى سيرشدنا إلى منزل الشهيدة عوضية وأخبرها بأن تأخذ حذرها؛ خصوصا أن المنطقة أصبحت ثكنة عسكرية؛ تخوفا من أى رد فعل غير متوقع من أهالى المنطقة الذين أشعلوا النيران فى إطارات السيارات فى جمعة ما قبل «لحس الكوع» احتجاجاً على سياسات التقشف.
انطلقنا بسيارة يسرا حتى وصلنا إلى مشارف المنطقة التى حاصرتها قوات الشرطة بسيارات تشبه سيارات الأمن المركزى فى مصر، وقفت اثنتان منها على اليمين واثنتان على اليسار، وقفنا بالقرب من سيارات اليمين أمام إحدى الصيدليات إلى أن اتصل بنا الشاب وطلب منا التقدم إلى الأمام ليركب معنا لنتوجه بعد ذلك إلى منزل «عوضية».
كلما اقتربنا من المنزل ازداد شوقى لمعرفة قصة الفتاة التى كلما ذكر اسمها تصمت الأفواه وتطأطئ الرؤوس حسرة على مقتلها.. وصلنا إلى المنزل المكون من طابق واحد وتتوسطه ساحة صغيرة «غير مسقوفة» على جوانبها 6 أسِرَّة، كعادة السودانيين، الذين يفضلون النوم إما فى ساحة المنزل مولين وجوههم إلى السماء مباشرة أو الخروج بأسرتهم أمام بيوتهم، المهم أن تلتقى أعينهم بالسماء قبل مداعبة النوم لأجفانهم.
على باب المنزل استقبلنا أحد أقارب عوضية وقادنا إلى غرفة استقبال الضيوف التى زينتها ملصقات عليها صورة «عوضية» ومكتوب أسفلها «كلنا عوضية»، وبعد لحظات قلائل جاء أخوها «محمد» من الخارج -يبدو أنه استأذن من عمله لمقابلتنا- جلس الأخ وعلامات الاستفهام لا تغادر عينيه الحائرتين، تكلمت يسرا بحفاوة وكأنها تعرف «محمد» وأسرته منذ سنوات.[Quote_2]
جلست على مقربة من الشاب النوبى، وقدمت له فى البداية واجب العزاء، وأخبرته أننى صحفية مصرية، وعلى الرغم من أنها المرة الأولى التى أراه فيها، فإننى أعرفه من خلال قصة شقيقته عوضية، سألته هل تعرف قصة الشهيد المصرى خالد سعيد؟ أجابنى بالنفى، بدأت أروى له قصة الشاب المصرى وكيف أنه قتل ظلماً على أيدى مجموعة من أمناء الشرطة، وكيف حاولت الداخلية تشويه صورته واتهامه بأنه مات مخنوقاً لأنه بلع لفافة من البانجو، والدور الذى لعبه الشباب المصرى فى محاولة فضح أكاذيب الداخلية لدرجة جعلتهم يقررون الخروج يوم 25 يناير يوم عيد الشرطة؛ للمطالبة بوقف تعذيب الأبرياء من الشعب ليتحول يوم الغضب إلى ثورة عظيمة أطاحت بنظام فاسد قبع على رئة مصر 30 عاماً.
هنا أدرك الشاب النوبى أننى أقص عليه قصة أخته «عوضية»، مع اختلاف المكان والزمان، ليبدأ فى سرد حكايتها محاولاً التماسك وحبس دموعه، فقد رأى أخته تموت أمام عينيه بطلقة خرجت من سلاح ضابط الشرطة أثناء دفاعها عنه، لتستقر الطلقة فى منتصف رأسها وتغادر روحها إلى الرفيق الأعلى دون ذنب.
يتذكر «محمد» يوم مقتل شقيقته قائلاً: «الجميع ما زال يتذكر اليوم المشؤوم، فقبل 3 أشهر، وتحديداً فى 6 مارس 2012، تعطرت يدى بدماء أختى محاولاً إسعافها ولكن دون فائدة».
يروى «محمد» تفاصيل اليوم: «تجمعنا مساءً لتناول وجبة العشاء، ثم توجهت إلى غرفتى لآخذ قسطاً من الراحة، وإذا بعوضية تدخل لتطمئن على وتعطينى الدواء، ثم غابت فترة، لتعود فى العاشرة مساء وتوقظنى من النوم لإخبارى بأن شرطة النظام العام أمسكت بشقيقنا وليد، قفزت من سريرى مهرولاً إلى خارج المنزل، وخلفى عوضية، وبمجرد الخروج وجدنا أخانا بثياب ممزقة يحيطه 3 من شرطة النظام العام يريدون اقتياده إلى قسم الشرطة بتهمة شرب الخمر. لم أجد أمامى سوى التحدث إلى الضابط حامد على حامد، الذى يحمل رتبة ملازم ثان، أخبرته بأن أخى لا يحتسى الخمر، ويمكن اكتشاف ذلك بسهولة عن طريق الاختبارات والتحاليل، إلا أن الضابط رفض الاستماع إلىّ كما رفض أخى أيضاً ركوب السيارة مما جعل أهالى الحى يتوسطون لحل المشكلة، إلا أن الضابط توعد بالعودة واعتقاله».[Quote_3]
قادنا محمد خارج منزله، ليرينا ما حدث على أرض الواقع، وأشار بسبابته: «هنا وصلت سيارة الشرطة بسرعة وبها قوة مكونة من 10 عساكر مدججين بالسلاح، اتجه 3 منهم نحوى، وأنا أقف أمام منزلى لاقتيادى إلى السيارة بنفس تهمة أخى وليد، عوضية كانت تقف على بعد خطوات منى، وعندما رأت الضباط حولى أسرعت تجاهى وتدخلت للدفاع عنى؛ محاولة إقناع الضباط بإجراء الاختبارات المتبعة للتأكد من ذلك».
يصمت محمد لبرهة، محاولاً التماسك، قائلاً: «كلمات عوضية جعلت اثنين من العساكر يتوجهان إليها، هى وأختى ووالدتى؛ وحاولا ضربهن، أنا ما تحملت، قلت له وقّف الضرب، ولو فيه حاجة أنا هامشى معاك فى القسم، بنات وعزّل، دى عملية بلطجية لو عايز تضربنى اضربنى».
محاولات «عوضية» للدفاع عنى، رد عليها الضابط بمخاطبة عساكره، بإطلاق النيران على العائلة، إلا أن العساكر رفضوا تنفيذ الأوامر، ليجذب الضابط السلاح من عساكره وأطلق النيران بشكل عشوائى على العائلة لتصاب عوضية بطلقتين فى الرأس، هنا هرول «محمد» إليها، ليجدها غارقة فى الدماء، فيما هرب الضابط وعساكره تاركين أحد العساكر.
يتابع «محمد» روايته: أمسكت والدتى بالعسكرى وهى تصرخ فيه «ليه قتلت بنتى؟» ليعود الضابط مسرعاً، لالتقاط العسكرى بعدما ضرب والدتى بالدبشك على رأسها ويديها مما أدى إلى كسرها.
فى تلك اللحظة، وقف محمد حائراً مذهولاً بين أخته الغارقة فى دمائها ووالدته المضروبة والملقاة على الأرض، ما جعل أحد جيران الحى يتطوع بسيارته لنقل أخته وإخراجها من الشارع الذى سدته قوات الشرطة توقعاً لحدوث أى ردة فعل.
أكثر ما يؤلم محمد، البيان الذى أصدرته حكومة البشير للتعليق على حادث مقتل الفتاة النوبية، الذى جاء فيه أن مجموعة من المخمورين اعترضوا دورية للشرطة، وأطلقوا النيران عليها، ليرد محمد: «أبسط حقوقنا أن نعيش آمنين، بدل ما الشرطة بتحمينا جاية تروعنا وتقتلنا، بدل ما تحفظ النظام هى التى تنتهك النظام، ارتكبوا جريمة مع سبق الإصرار والترصد ضد مواطنين عزل، حتى ولو أنا مجرم ما ينفعش إنه يتعامل معى بالطريقة دى».
قضية مقتل «عوضية» الفتاة النوبية، ما زالت أمام المحكمة لم تتخذ فيها خطوة واحدة، فالضابط الذى قتلها يتمتع بحصانة لم ترفع عنه حتى هذه اللحظة، حسب تأكيدات شقيقها، ما يفسر غضب أهالى «الديوم» الذين أحرقوا دفتار الشرطة فى 23 يونيو الماضى وأشعلوا النيران فى إطارات السيارات، ما جعل الأمن يحاصرها بعشرات من قوات الأمن حتى هذه اللحظة.
انتهت مقابلتنا مع شقيق «عوضية»، الذى أهدانا ملصقات عليها صورة شقيقته ومكتوبا أسفلها «كلنا عوضية»، أخذت جزءاً منها ووضعته فى حقيبة ملابسى بعد عودتى إلى منزل يسرا، فيما لصقت «يسرا» صورة الشهيدة، على جدران شقتها فى مواجهة الباب، دون أن تعلم كلتانا أن هذه الصور سوف تتحول إلى دليل إدانة ضدنا بعد أيام.