بروفايل| الجندى مصرى مشروع شهيد
تشتعل الشمس. تلفح وجوههم. تخمّرها وتدهن أجسادهم النحيفة بالسُّمرة، لا يخرجون من دروعهم التى يُحبسون بداخلها لسنة أو اث*تين. لا يقطع السكون من حولهم إلا صوت الرصاص الذى يستهدفهم بين الحين والآخر. لا يبلل جفاف الجو من حولهم إلا دماؤهم التى تشربها الأرض حين يُقتلون.. لترات من الدماء ولم ترتوِ الأرض، ولم يكفّ المجهولون عن تلقيم أسلحة الغدر بالرصاص.
خلعوه من طينه للوطن. شحنوه فى قطارات صدئة تسير على قضبان الموت. درّبوه على تلقيم السلاح، على إطاعة الأوامر، على التصويب والكر والفر. علموه الانبطاح، علموه تلافى رصاصات العدو. لم يعلموه الانحناء، لم ينبهوه إلى أن قاتليه قد يكونون من بنى وطنه، ولم يلقنوه كيف يتحاشى رصاصات الغدر.
هل أتاك حديث الجنود؟ هم مشاريع قتلى تتنقل فوق الأرض، حرّاس الأرض التى يقفون فوقها. هل أتاك حديثهم فى ساحات الإرهاب المكشوفة فى سيناء؟ دباباتهم ومدرعاتهم التى يسكنونها فى حرّ الصباح، وخيامهم التى تؤويهم فى برد المساء! هل أتاك حديثهم حين يموتون وتطفو أسماؤهم على أسطح الجريدة مسبوقة بعبارة «الجندى الشهيد»؟ هل أتاك حديث أمهاتهم الثكالى الباكيات؟ والآباء الذين انتزعوا من أحضانهم أبناءهم؟
ها هو الجندى فى طابور الصباح. يحمل السلاح. يقف «انتباه» من حديد، يأكل الجبنة والسميط ويلقم الحديد بالحديد.. يحرس الحديد، ويحيى راية الوطن المثبتة على صارى الحديد.
«ها هو الجندى
يسرع كالنبوءة
واهباً للناس آخر فرصة سنحت
يحشو بندقيته بأحلام
ليطلقها غداً.. وينام».
ها هو الجندى فى عنبر النوم.. حصل على فرصة ثانية للبقاء على قيد الحياة، وفرصة للرجوع لحضن أمه ورائحة ثيابها وطعم ثريدها.
صاحب السترة المموّهة صار هدفاً لأسلحة الغدر، غنيمة حرب للخاطفين، يساومون على إطلاق سراحه ومبادلته بمساجينهم فى سجون السلطات. قتلوا أصحاب السترة المموّهة بدم بارد لترتوى الأرض بدمائهم وليرووا غلّهم من خصومهم.
يحكم البعضُ البعضَ، ويطيح البعضُ بالبعضِ عن كرسى الحكم، ولا يدفع الثمن إلا المسكين المرمى فى كبد الصحراء. لا يدرى المقتول فيما قُتل فى زمن «الهرج».. يرحل دون وقت ينطق فيه الشهادة أو يرسم على جسده الصليب.. يرحل دون أن يودّع الحبيب، دون اقتراف ذنب ما بين الموت والولادة.