لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
رددها الحجيج بقلوبهم ومشاعرهم وضمائرهم قبل ألسنتهم، لا فرق بين مصرى وتركى وسعودى وقطرى وسودانى، ولا أسود ولا أبيض ولا أصفر، لا فرق بين مسلم عربى أو أمريكى أو أوروبى أو آسيوى أو أفريقى أو هندى أو باكستانى.
فكلهم يعبدون إلهاً واحداً، ويتوجهون لبيت واحد، وقبلة واحدة، ويلبسون ملابس واحدة، ويؤدون مناسك واحدة، ويرفعون راية واحدة هى راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
يقفون سوياً بعرفات فى وقت واحد، ويغادرون فى وقت واحد، ويحلقون أو يقصرون ويرمون الجمرات سوياً.
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا اليوم، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، على ناقته القصواء، وقال: «استنصت الناس يا جرير»، فأنصت له كل شىء، أنصتت له الدنيا كلها، الرجال والنساء والحجر والمدر والأرض والسماء.
أنصتوا لكلماته المودّعة، التى لخّص فيها رسالته، واستودع الرسالة والأمانة للأجيال المقبلة.
ها هو النبى العظيم يتأمل ثمرة كفاحه وحصاد بذله وعطائه الذى استمر طيلة 23 عاماً، يراها فى تلك الجموع المؤمنة التى لم تجتمع من قبل لنبى قبله، فقد كانوا مد البصر عن يمنيه وشماله وأمامه وخلفه.
تحدّث رسول الله يومها، فى حجة الوداع، عن كل القضايا الهامة التى ستحتاج لها أمته، وتحدّث عن حرمة الدماء والأموال والأعراض فى نبرة حاسمة واضحة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا». ولكن اليوم معظم الأمة والغة فى الدماء والأموال والأعراض الحرام. تأمل ذلك فى اليمن والعراق وسوريا وأفغانستان وباكستان.
وأموال الأمة تنفق فى الإضرار بالأمة نفسها.
الأمة فى حالة صراع شبه دائم، إما صراع سياسى أو عسكرى أو اقتصادى، بدلاً من أن تتعاون فيما بينها يكيد بعضها لبعض، ويمكر بعضها ببعض، ويتلوّن بعضها أمام بعض، ويغتاب بعضها بعضاً، وينهش بعضها أعراض بعض. ووالله لو طبقوا هذا المبدأ فقط الذى أرساه الرسول الكريم فى خطبة الوداع لعُصمت دماؤهم وحُفظت أعراضهم وزادت أموالهم.
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصى الجميع بالنساء، فهم الطرف الأضعف فى المجتمع والأحق بالرعاية والعناية، وهذا هتافه يدوى عبر الزمان والمكان والأجيال: «اتقوا الله فى النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»، وكأنه يذكّر الأجيال بأن خير الناس خيرهم لزوجته لقوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى»، ثم شرح العلاقة بين الحاكم والمحكوم فقال: «أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشى مجدع ما أقام فيكم كتاب الله، فالعلاقة مع الحكام ليست علاقة صراع ونزاع وتآمر وكر وفر ما دام يقيم العدل».
ثم أوصى بالخدم والعمال الذين يعملون تحت أيدينا فقال: «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون»، ومنع ضربهم وأذاهم أو أكل حقوقهم بالباطل، ثم حرم أن يأخذ الإنسان من أخيه شيئاً دون رضاه، فقال: «لا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم».
ثم ختم الرسول «صلى الله عليه وسلم» خطابه بأجمل الحكم وأقواها وأكثرها أهمية: «لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»، ثم ودّع رعيته وتلاميذه وحوارييه، وكأنه يودّع الدنيا كلها فيقول: «ألا هل بلغت؟» ثلاث مرات، وهم يجيبونه فى تأثر بالغ: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فيرفع إصبعه إلى السماء قائلاً: اللهم فاشهد.
ونحن، يا سيدى، نشهد أنك بلغت وأديت، ولكنا قصّرنا فى حقك.