6.5 مليار دولار استثمارات الأتراك فى القارة.. والمساجد كلمة السر
«أردوغان» يستغل الصراعات الأفريقية لفرض هيمنته
على مدار السنوات القليلة الماضية، ومع تنامى سلطوية الرئيس التركى رجب طيب أردوغان وسيطرته على مقاليد الحكم، تحولت تركيا إلى صياغة سياسة خارجية جديدة تتعارض مع سياسة «صفر مشاكل» التى وضعها وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، فبدأت تركيا تتحرك لتدخل فى صدامات وصراعات على النفوذ ليس فى محيطها المجاور فى الشرق الأوسط فقط، بل امتدت أياديها إلى أفريقيا أيضاً.
وإلى جانب العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية وعلاقات الصداقة التى صاغها «أردوغان» مع عدد من رؤساء الدول الأفريقية، بدأت آلة السياسة الخارجية التركية فى تخصيص الأموال للتأثير على دول القارة السمراء وحشد النفوذ فيها، بداية من دعم رؤساء بأعينهم وتقديم الدعم المادى والمعنوى لهم فى حملاتهم الانتخابية، مروراً بضخ كميات هائلة من الأسلحة إلى مناطق النزاعات فى منطقة القرن الأفريقى دون الإعلان الرسمى عن تورط «أنقرة» فى تهريب تلك الأسلحة، وأخيراً وليس آخراً اتباع سياسات القوة الناعمة لمحاولة التأثير على عدد كبير من دول القارة، كنوع من الصراع على النفوذ فى مواجهة دول الخليج التى تربطها علاقات وثيقة بالدول الأفريقية.
فى عام 2003، بلغ حجم التبادل التجارى والاستثمارات التركية فى القارة الأفريقية 100 مليون دولار فقط، وبحلول نهاية عام 2018 وصل حجم الاستثمارات التركية المباشرة فى أفريقيا إلى 6.5 مليار دولار، فى حين بلغ حجم التبادل التجارى بين تركيا ودول أفريقيا 17.5 مليار دولار، وتزايد عدد السفارات التركية فى دول القارة الأفريقية من 12 سفارة فى عام 2003 إلى 41 سفارة فى عام 2017، كما زادت الخطوط الجوية التركية من عدد وجهاتها فى القارة السمراء إلى 52 وجهة، وهو رقم تتفوق به على أى خطوط جوية أخرى تابعة لأى دولة فى العالم.
وفى 2012، كانت الخطوط الجوية التركية أول من يهبط برحلة تجارية إلى مطار «مقديشو» الدولى فى الصومال بعد سنوات من الحرب التى مزقت هذا البلد.
مضاعفة ميزانيات المنظمات الإغاثية والإنسانية التركية بدول أفريقية وعدد السفارات قفز من 12 إلى 41 فى 14 عاماً
الباحث البارز بمؤسسة «الدفاع عن الديمقراطية» الأمريكية آيكان إردمير، قال إن «ما يمنح أردوغان القدرة على التحرك بحرية فى القارة الأفريقية، هو سيطرته الكبيرة على المؤسسات ومقدراتها، وهى تتنوع بين منظمات الإغاثة ووسائل الإعلام وغيرها، وهو ما يمنحه قدرة كبيرة على ممارسة القوة الناعمة»، فيما أشار الخبير فى الشئون التركية توماس سيبرت فى مقال له بمجلة «آراب ويكلى» الصادرة باللغة الإنجليزية، إلى أن «تركيا تحاول كسب النفوذ فى كل المناطق الممكنة من خلال الوسائل الثقافية والاقتصادية، وعلى الرغم من أنها حققت نجاحاً كبيراً فى أوروبا وأفريقيا، فإن هذا النفوذ يشهد تراجعاً فى الشرق الأوسط بسبب النزعة السلطوية التى تسيطر على أردوغان».
«سيبرت» قال إن أهم أدوات القوة الناعمة التى تستخدمها تركيا للسيطرة على أفريقيا، هى ما سماه بـ«دبلوماسية المساجد» من خلال هيئة الشئون الدينية التركية، حيث تعمل تلك الهيئة على إرسال مئات الأئمة الأتراك إلى الدول الأفريقية والأوروبية لتعليم المواطنين فى تلك البلدان الدين الإسلامى من وجهة النظر التركية، إضافة إلى ضخ «أنقرة» مئات الملايين من الدولارات لإنشاء المساجد فى أوروبا وأفريقيا، ويتولى بعد ذلك الأئمة الأتراك مسئولية تلك المساجد.
وتابع محلل الشئون التركية: «أصبح بناء المساجد أداة رئيسية لنشر القوة الناعمة التركية، حيث أشرفت هيئة الشئون الدينية التركية على بناء ما يزيد على 50 مسجداً فى عدة دول منها الولايات المتحدة وروسيا والصومال ونيجيريا وغيرها، كما تولت تلك الهيئة إعادة ترميم مئات المساجد التى دمرتها الحروب فى الشرق الأوسط وأفريقيا».
ويشير «إردمير» إلى أن «التمويلات السخية التى تقدمها الحكومة التركية هى الأداة الأكثر أهمية فى معركة حشد النفوذ التى تسعى لها تركيا، حيث إنه تحت حكم (أردوغان)، تضاعفت ميزانية مؤسسات الإغاثة الإنسانية والمؤسسات التنموية عدة مرات»، فيما أشار «سيبرت» إلى أن «أفريقيا تحولت إلى نقطة التركيز الرئيسية فى جهود أنقرة لحشد التأثير، وليس هناك مثال أوضح من سعى أنقرة للحصول على موافقة السودان لترميم مدينة سواكن الساحلية السودانية، التى كانت تعتبر جزءاً من الإمبراطورية العثمانية على ساحل البحر الأحمر، كما أن هناك خططاً لضخ استثمارات تركية ضخمة لبناء مطار الخرطوم الجديد».
وعلى الرغم من محاولات تركيا التأثير على الدول الأفريقية، فإن محللين يتوقعون تراجع النفوذ التركى فى الفترة المقبلة فى القارة السمراء، معللين ذلك بأن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى ضربت تركيا نتيجة معركتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة، أدت إلى انخفاض قيمة الليرة التركية نحو 40% فى مواجهة الدولار الأمريكى، فيما قال «إردمير»: «نظراً للتراجع الاقتصادى فى تركيا وانهيار الليرة التركية، فإن أنقرة ستكون مجبرة على تخفيض تمويلاتها لعملائها الأفارقة، وبالتالى ستتراجع القوة الناعمة التركية إلى حد كبير».
مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات التركية جونول تول، أكد فى مقال بمجلة «فورين آفيرز» الأمريكية، أن «أردوغان» يستخدم الأيديولوجية الدينية لنشر أفكاره ورؤيته الخاصة عن الإسلام بهدف جعل تركيا قائدة للعالم الإسلامى وبالتالى جعله هو حامل لواء الدفاع عن الإسلام، مشيراً إلى أن «دبلوماسية الدين التركية نجحت بشكل كبير فى دول أفريقيا، وتحديداً فى الصومال وتشاد وإثيوبيا وغانا والنيجر ونيجيريا، حيث استقبلت تلك الدول نموذج التعليم الدينى التركى بترحيب كبير ونشرته بين طلابها».
وأكد «تول» أن «تركيا فشلت فى نشر تلك الاستراتيجية فى دول الشرق الأوسط التى لا تزال تنظر إلى الإمبراطورية العثمانية باعتبارها إمبراطورية استعمارية، فى حين أن الدول الأفريقية وتحديداً دول أفريقيا السوداء (جنوب الصحراء)، كانت أكثر قابلية لاستيعاب الدبلوماسية التركية التى تستند إلى التفسير التركى الخاص للإسلام».
الباحثة المتخصصة فى مجال الاستخبارات والأمن والدفاع إينات آلاذارى، قالت -فى تقرير بمعهد «جلوبال ريسك» الأمريكى لتقييم المخاطر- إن «أردوغان يحاول استغلال تركيز العالم على تحركات تركيا فى سوريا، للتغطية على تحركاته ونواياه وطموحه فى القارة السمراء، حيث يسعى إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من النفوذ فى ظل انشغال العالم بالأزمة السورية». وتابعت: «فى ديسمبر 2017، زار أردوغان السودان وتشاد وتونس. وقد وقع فى السودان 13 اتفاقية تجارية وأمنية جديدة، تزيد قيمتها على أكثر من ضعف حجم التبادل التجارى بين البلدين، حيث قفز التبادل التجارى بين السودان وتركيا بسبب تلك الاتفاقيات من 500 مليون دولار إلى 1.1 مليار دولار».
وعن السبب الذى يدفع «أردوغان» للتركيز على أفريقيا وتحديداً السودان، قالت «آلاذارى»: «لم يكن توقيت مبادرة أردوغان للتقارب مع أفريقيا من قبيل المصادفة، حيث إنه يحاول استغلال التوترات التى تطفو على السطح فى بعض الأحيان بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن السد الذى تبنيه إثيوبيا على نهر النيل، وهو أمر يسعى أردوغان لاستغلاله جيداً لتقوية وتعزيز علاقات تركيا مع السودان وعدة دول أفريقية أخرى».
وأضافت الباحثة الأمريكية: «لم يكن اختيار جزيرة سواكن فى السودان أيضاً لإعادة تأهيلها من قبيل المصادفة، حيث إن الجزيرة تعتبر إرثاً عثمانياً لم ينسه الأتراك بعد، كما أن موقعها يقع مباشرة على البحر الأحمر، والوجود التركى هناك سيوفر لـ(أردوغان) أفضلية اقتصادية وجيوسياسية جديدة فى المنطقة، خصوصاً أن تلك الجزيرة تطل على طرق نقل النفط الأهم فى العالم، حيث يمر ما يقرب من 4.5 مليون برميل نفط يومياً عبر تلك الجزيرة فى الطريق من الخليج إلى قناة السويس».
مؤسسة البحر الأحمر، وهى مجموعة استشارية تعمل على مراقبة حركة التجارة والاقتصاد فى منطقة البحر الأحمر، أشارت فى توقعاتها إلى أن حجم التجارة التى تمر عبر البحر الأحمر سيرتفع من 881 مليار دولار إلى 4.7 تريليون دولار خلال العقدين المقبلين.
وتابعت المؤسسة: «هذه الإمكانيات والتحكم فى طرق التجارة عبر البحر الأحمر، قد يمنح تركيا فرصة وطرقاً جديدة للولوج إلى أسواق جديدة، ناهيك عن زيادة حجم تجارتها الحالية».
وبحسب «آلاذارى»، فإن «أردوغان يبحث أيضاً عن موطئ قدم للنفوذ التركى اقتصادياً وسياسياً، بعد أن أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون صراحة أن تركيا ليست لديها فرصة فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى».