حكايات العمال فى «الوردية»: «بنحلم نشوف تعبنا بيتحرك على القضبان»
عمال الجزء الثانى من المرحلة الرابعة يواصلون تنفيذ مشروعات الخط الثالث للمترو
ملامح الكوبرى الذى سيحمل المحطات العلوية للمرحلة الرابعة من مترو أنفاق القاهرة الكبرى بدت واضحة لكل من وطئت أقدامه شارع جسر السويس، فالحواجز الحديدية متراصة بجوار بعضها بطول الشارع، تحيط تلك الأعمدة الخرسانية التى ارتفعت بضعة أمتار عن الأرض، معلنة عن جهد كبير بُذل فى هذه المنطقة لخروج المشروع إلى النور، وعلى بُعد مئات الأمتار عن محطة مترو النزهة، حيث بداية هذا الجزء العلوى من المرحلة، كانت محطة الشهيد هشام بركات التى لم يتبقَّ على الانتهاء منها سوى القليل، ما جعل العمل فيها قائماً على قدم وساق، وحالة من النشاط دبت فى نفوس كل العاملين.
درجات سلم حديدية مؤقتة تصعد من شارع جسر السويس إلى المستويات الثلاثة التى تتكون منها محطة الشهيد هشام بركات، ذلك الهيكل الحديدى للمحطة شبه الأسطوانية، ينهمك العمال فى وظائفهم، تجمع بينهم السترات الفسفورية والخوذ برتقالية اللون، وسط ضجة لا تتوقف على مدار اليوم تصدر عن مجموعات متفرقة من العمال، فى صمت فرضته حالة الجد التى بدت واضحة على وجوههم.
بضع دقائق اقتطعها الثلاثينى عطوة السيد، حداد مسلح بالمشروع، من عمله بعد إذن أخذه من مديره المباشر للحديث معنا، فخلع عن رأسه غطاءه، ملتقطاً أنفاسه فى هدوء، موضحاً أنه انتقل للعمل فى المشروع قبل نحو عام وهو يعلم حجم الضغوط التى سيعيشها منذ اليوم الأول، إلا أنه كان مهيأ لذلك عبر جولة فى بعض المشاريع الكبرى الأخرى، من بينها إنشاء خطوط أسمنت بنى سويف والعاصمة الإدارية الجديدة، ورغم ذلك كان العمل فى هذا المشروع مختلفاً، بحسب قوله.
نائب رئيس المرحلة: أنجزنا 16 ألف ساعة عمل وسط أجواء صعبة.. ونُجهز العاملين لتحمل مسئولية القطاع فى المستقبل
يمتد عمل «عطوة» لمدة تصل إلى 12 ساعة يومياً، وقد تزيد، ضمن وردية عمل يُفترض انتهاؤها فى الخامسة مساء، ويرجع ذلك إلى أن ساعات العمل فى مثل هذه المشاريع تكون «حسب الشغل المطلوب»، ما يجعل الالتزام بوردية محددة أمراً فى غاية الصعوبة، إلى جانب ذلك، فإن «عطوة» يؤدى عملاً شاقاً لأهمية أعمال الحدادة وصعوبتها، إلا أن التعود على العمل تحت ضغط هو المعيار الفاصل فى هذا الأمر، حسب قوله.
تعابير وجه «عطوة» زالت عنها ملامح إرهاق الساعات الأولى من اليوم، لتحل مكانها آيات ابتهاج عندما بدأ حديثه عما وصل إليه المشروع»: «كل مدة كنت بقول لنفسى وأنا شغال هو إحنا هنعمل مترو؟.. إحنا ماكناش متوقعين حاجة زى دى»، فالإحساس عند العامل بهذه المشاريع المنتظرة من الجمهور يكون مختلفاً عن غيرها، وهو ما بدا واضحاً فى لهجة «عطوة» التى امتلأت بالحماس طيلة حديثه، ما جعله ينتظر «بفارغ الصبر» إنجاز هذا العمل: «مستنى أشوف نتيجة العمل اللى أنا عملته، وإيه الفايدة اللى هترجع على الناس منه».
بين مجموعة أخرى من العمال فى أحد أركان المستوى الثانى للمحطة، كان براد التركيبات أحمد جمعة، صاحب الـ27 عاماً، ينجز بعض الأعمال فى هدوء واضح. علت وجهه ابتسامة لم تفارقه طيلة حديثه بعدما أنجز مهمته فى المحطة بنسبة تقترب من الـ100% بعد 8 أشهر متواصلة من العمل، ليتبقى فقط «الفينش الأخير» والتشطيبات التى يتولاها الآن، ليشارك غيره من العاملين «شعور الفرحة» بقرب انتهاء العمل بالمحطة بصورة كاملة، فى فترة اعتبرها «قياسية» بعد أيام عمل «مضغوطة»، عبّر عنها بلهجة حماسية قائلاً: «فيه اختلاف تام فى المشروع أول ما بدأت فيه لدلوقتى، الواحد حاسس إنه عامل إنجاز».
«جمعة»: «هبقى مطمّن لما أركب المترو لأنى صنعته بنفسى.. وبحكى للناس عن الإنجاز اللى بنعمله»
يسرح «جمعة» بعينيه فى كتل الحديد المرتفعة من حوله فى كافة الاتجاهات، وبدت عليه آيات الفخر واضحة بما أنجزه من عمل، والذى لن يقف عند الانتهاء منه فحسب، فوفق قوله، ينتظر الشاب الثلاثينى يوماً يركب فيه القطار من المحطة: «هبقى مطمّن لإنى عاملها بنفسى».
يحكى «جمعة»، بنبرة صوت هادئة، عن سيل من الأسئلة والاستفسارات المتكررة التى يتلقاها بشكل دائم من أصدقائه ومعارفه، حيث يؤدى دور الشارح لهذا العمل «غير المفهوم» بالنسبة لهم: «بحكيلهم عن طبيعة الشغل وبفرّجهم على الصور اللى بصوّرها بموبايلى للمشروع وأنا شغال فيه، ولما بلاقى حد خايف من فكرة الكوبرى اللى هيمشى عليه مترو بطمّنهم وبعرّفهم إن ده عادى».
على أحد جوانب المحطة، كان يتدلى عدد من العمال مقيدين بحبال غليظة مثبتة من الأعلى، يقومون بعملهم فى شد السقالات اللازمة لإنجاز بعض المهام الأخرى. خرج لنا من بينهم جميل لطفى، مشرف سقالات بالمشروع، فى بدايات عقده الرابع من العمر، يحكى لنا عن طبيعة العمل الذى يضطره لقضاء أغلب الوردية معلقاً فى الهواء، فى أجواء اتسمت بالخطورة لم يعد يهابها، خاصة أن كل الأعمال التى يتم إنجازها فى موقع العمل تعتمد عليه، فهو المسئول عن تجهيز كل الشدات المعدنية المستخدمة، ومن ثم فهو المؤسس لكل عمل سيبدأ، ويزيد من حساسية عمله مكان موقع العمل الذى يتوسط الشارع بين المارة، ليتحدث عنه بلهجة جادة قائلاً: «الواحد بيخاف على غيره أكتر من نفسه، وممكن أى حاجة تقع فى الشارع وتعمل مشكلة، فلازم تكون مركّز مع الناس اللى شغالين كلهم».
«فاروق»: «اللى بيحصل هنا تطوير فى علم الهندسة.. وهقول لأولادى إنى شاركت فيه»
العمل فى هذا النوع من المشاريع من وجهة نظر «جميل» يكون بـ«حُرقة» أكثر من أى مشروع آخر، ولا بد أن يجد لكل أزمة حلاً سريعاً، مرجعاً ذلك إلى طبيعة العامل نفسه والصفات التى يجب أن تتوافر فيه لوجوده فى مثل هذا العمل، وهو ما اكتسبه «جميل» من المشروعات التى عمل بها وأهّلته لذلك، معتمداً على «سياسته المعهودة» فى إنجاز أعماله، معبّراً عنها بقوله: «طول ما ربنا موجود مفيش حاجة صعبة، والكلمة الحلوة هى اللى بتهوّن علينا الشغل، ودى طبيعة شغلى وده أكل عيشى».
بين العمال المتفرقين فى أماكن مختلفة ينجزون مهامهم بتركيز تام، كان المهندس الثلاثينى فاروق رحاب، مهندس موقع بالمشروع، يتحرك هنا وهناك بنشاط بدا واضحاً، لم تفارق الخوذة رأسه منذ أن عبرت قدماه هذا الحاجز بين مكتبه وبين موقع العمل، يضحك مع هذا، ويوجه تعليمات لآخر، ويقف إلى جوار ثالث يتابع ما يقوم به، فى حركة يومية تعوّد عليها منذ اليوم الأول بالمشروع الذى بدأه «من الصفر»، ليحكى لنا عن أولى العقبات فى العمل، وتمثلت فى إخلاء المنطقة، وهو أمر فى غاية الصعوبة إذا كان الشارع المراد إخلاؤه بحجم شارع جسر السويس، على حد قول «فاروق»، وإلى جانب ذلك كانت هناك بعض المشكلات الأخرى «تحت الأرض» متمثلة فى الخدمات التى تغذى المنطقة من مياه وغاز وكهرباء وصرف صحى: «كل دى كانت صعوبات عملاقة، والحمد لله تغلبنا عليها والمشروع بدأ يظهر للنور».
رغم حالة المرح التى كان يبدو عليها «فاروق» فإن «الجدية» واتباع نظام دقيق يساعد على إنجاز العمل، كانا أهم ما يشغل بال المهندس الشاب، فبدون هذا النظام لا يمكنه السيطرة على مئات العمال الذين يشرف عليهم فى موقع العمل، ليعبّر عن ذلك بنبرة جادة قائلاً: «لو مفيش نظام مش هنعرف نشتغل، لكن فى نفس الوقت بنتعامل مع العمال كإخوة وأصحاب عشان الشغل يمشى».
أنهى «فاروق» واحدة من جولاته فى موقع العمل ليعود ويجلس على أريكة خشبية أمام مكتبه، بعد أن خلع عن رأسه خوذته ملتقطاً أنفاسه، قبل أن يتحدث بشىء من الفخر عن عمله فى محطة الشهيد هشام بركات وغيرها من محطات الجزء العلوى من المرحلة، والذى اعتبره «تطويراً فى علم الهندسة»، ما جعل الاستفادة منه ضخمة لكل العاملين فى المشروع، على حد قوله: «الخشبة اللى بنستخدمها فى المشروع ده بتستفيد هى كمان، لأن كل اللى بيحصل هنا جديد»، قالها «فاروق» قبل أن ينتفض من جلسته واقفاً، وهو يشير إلى أحد الأعمدة الخرسانية التى ترتكز عليها المحطة، قائلاً: «إحنا مش كل يوم هنعمل مترو، ويكفى إنى لما هكون ماشى مع أصحابى أو أولادى فى المستقبل، هشاور لهم على المترو وأقول لهم أنا اللى عامل ده. وهذا فى حد ذاته شرف».
جولتنا فى هذا الجزء من المشروع كان يصاحبنا فيها المهندس سيد كامل، نائب رئيس المرحلة الرابعة. حكى لنا عن «أول خازوق» تم دقه فى محطة هشام بركات فى ديسمبر 2016، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف العمل للآن، شارحاً لنا طريقة الصعود إلى المحطات من الشارع بعد انتهائها عبر 4 مداخل تضم 5 سلالم خرسانية واثنين كهربائيين، وفى المستوى الأول للمحطة بعد المرور من ماكينات التذاكر، تجد فى كل جنباتها 4 سلالم كهربائية بإجمالى 8 سلالم بالمحطة، تأخذ الراكب إلى منسوب الرصيف.
العمل بين الناس فى الشارع يضع على المشروع حملاً إضافياً، بحسب قول «كامل»، ما يجعلهم لا يريدون إحداث أى بلبلة لراحة المواطنين، خاصة مع اقتراب المشروع من منطقة صناعية، ورغم ذلك يوضح أن عدد ساعات العمل حتى الآن 16 ألف ساعة عمل بعدد حوادث قليلة، مشيراً إلى وجود نسبة حوادث واردة فى مثل هذه المشروعات، مضيفاً: «أهم شىء هنا الأمان، أمان العامل والمواطنين، خاصة إننا بنجهز كل العاملين عشان يكونوا هم المسئولين عن حمل القطاع فى المستقبل».