م الآخر| كريستينا
تتحرك كريستينا بخطًا متعبة إلى المنزل، ربما نتيجة جهد زائد قامت به في المتجر الذي تعمل به كبائعة لمستحضرات التجميل، إنه يوم الجمعة وعادةً ما يذهب الكثير من الناس إلى المتاجر الكبرى للتسوق، حيث أن يومي السبت والأحد تغلق جمبع المحال التجارية.
لم يكن يومًا مختلفًا عن باقي الأيام، يوم رتيب ممل، يقود بدوره إلى عطلة نهاية إسبوع رتيبة ومملة هي الأخرى.. يا لها من حياة بائسة يا كريستينا، أخذت تندب حظها، فهي ليست ككل البنات، هي خجولة لدرجة تبعث على الشفقة، اليوم على سبيل المثال: إحمر وجهها حمرة قريبة الشبه بدم الغزال، لمجرد أن أحد زبائن المتجر طلب منها أن تختار له عطرًا رجاليًا يثير شهوة النساء، تعلثمت ولم تستطيع، بل إنها هرولت بشدة ولم يسمع الرجل إلا كلمة دورة المياه.. يا لك من غبية حمقاء يا كريستينا، هكذا بدأت تكيل لنفسها الكثير من الكلام الغليظ الجارح وهي تنظر لوجهها الجميل الباكي أمام المرآة.
قررت كريستنا أن تتغير هي أو تغير واقعها المرير، فكيف لأنثى جميلة مثلها ألا يكون لها حبيب، فليس بها أي عيب سوى هذا الخجل الموحش، كانت تفكر بعد أن خرجت من محطة المترو في جملة واحدة فقط!، كيف لي أن أكون بصحبة رجل هذه الليلة؟ لم تأخذ الكثير من الوقت لتتخذ قرارًا بأن تخرج من عزلتها، التي لا تعرف إن كانت فرضتها هي على نفسها أو فرضت عليها قسرًا.
مرت على المغسلة الملاصقة للبناية التي تسكن بها، وأحضرت أغراضًا قد تركتها بالأمس، فتحت الباب بهدوء معهود، ضغطت على زر المصعد وهي تبتسم ابتسامة غير مألوفة عليها، حتى أن رجلًا عجوزًا قد وقف ينتظر المصعد بصحبة زوجته، قال لها إن هذه هي المرة الأولى التي أراك تبتسمين منذ أن سكنتي معنا، حتى أنني ظننت أن الرب قد خلقك ولم يعلمك كيف تبتسمين.. لم تعلق على كلام العجوز وكأنها تأكد على صحة كلامه، ودعتهم برقة قبل أن تدلف إلى شقتها في الطابق الخامس.
فتحت الباب من أول مرة، لم تجرب جميع المفاتيح التي تتدلي من سلسة المفاتيح كعادة من عاداتها الأصيلة، خلعت ثيابها حتى أصبحت كما ولدتها أمها، في ثواني معدودة كانت تتساقط على جسدها الوردي الكثير من قطرات الماء السعيدة الضاحكة الساخنة، اختلط الغناء بالماء الساخن الذي كان ينزل عليها كأمطار الصيف، ضحكت بصوت عال وكأنها لم تضحك من قبل، تولد لديها إحساس غريب بأن هذا الحمام الساخن هو كالمشيمة، التي يخرج منها المولود بعد انقضاء فترة الحمل في بطن أمه.
وقفت أمام المرآة التي تتوسط حجرتها الصغيرة، أخرجت عطرًا أنثويًا متوحشًا كانت اشترته من المتجر الذي تعمل به بتخفيض كبير، تحسبًا ليوم كهذا.. أمطرت جسدها العاري بذخات من العطر ذو الرائحة القوية الآثرة، وأخرجت من درج ملابسها الداخلية، كل ما فيه بحثًا عن شئ يمكن أن يفوز بليلتها الأولئ. لم تجد ما قد يكون مناسبًا لليلة كهذه، ولكنها تذكرت أن صديقة لها قد أهدتها طقمًا داخليًا في عيد ميلادها الفائت، تذكرت بصعوبة بالغة مكانه، كانت قد ألقته بصحبة بعض الأغراض، ظنت أنها لن تحتاجها في يوم من الأيام، في خزانة صغيرة في الغرفة الصغيرة المهجورة من شقتها.
أحضرته بنعومة وحنان، ارتدته وهي مغمضة العينين تتخيل أشياءً قد تحدث لاحقًا، ارتدت بنطالًا ضيقًا ذو ملمس ناعم أسود اللون سوادً لامعًا، ولكن الحيرة تملكتها وهي تختار القميص الذي تضعه على جزئها العلوي، مر بذهنها كل الحوارات التي كانت قد سمعتها من زميلاتها عماذا يفكر الرجال في النساء؟ وعليه قررت أن تلبس قميصًا بنفسجي اللون، من الحرير الخالص به لمعة تكاد لا ترى.
كان محتشما لدرجة أنها فكرت كثيرًا أن تستعيض عنه بآخر يكون أكثر جرأة، ولكنها تذكرت أن إحدى زميلاتها كانت تحدث أخرى قائلة "إن معظم الرجال يميلون أكثر إلى المرأة التي لا تبيح بأسرارها كلها من أول مرة".
اقتربت من البار المتاخم لمنزلها، كانت قد قررت سلفًا أنه سيكون محطتها الأول، فالعادة تقول إن يوم الجمعة يتنقل الناس من بار إلى آخر لتناول المشروبات الروحية، وكأنهم ركاب يتنقلون كثيرًا من بلد لآخر.. بدأت تتوتر أعصابها شيئًا فشيئًا وهي تقترب من الباب، توقفت أقدامها عن الحركة وتوقف كل حي فيها، بدأت تستجمع أنفاسها وتهدأ من سرعتها.
شبح كريستنا الأخرى يصحو من مدفنه أم ماذا؟ هكذا سألت نفسها، وقررت أن تقتل هذا الشبح حتى لا يفكر في الظهور مرة أخرى.. فتح لها الباب شابًا لاحظت من حركات يديه أنه لا يبدو رجلًا بالمرة، اقتربت من إحدى الطاولات القريبة من وسط البار، جلست في رعونة تبدو طبيعية كونها أول مرة تدخل هذا المكان، لم تستطع أن تحدد فريستها بسهولة.. اقترب منها شخص يقوم بخدمة رواد المكان، وسألها ماذا يحضر لها، طلبت كأسًا من البيرة متوسطة البرودة.
الوقت يمر من دون أي حدث يذكر، يبدو أنك منحوسة أيتها الشقراء البائسة، قالت يبدو أن بي شئ ينفر الرجال مني، أعتقد أنني أجمل امرأة في هذا المكان، بل أنا أكثرهن أنوثة، ومع ذلك لم يقترب مني رجل واحد، ربما أن الكلام الذي سمعته من زميلاتي لم يكن صحيحًا، ربما توجب علي أن أكون أكثر جرأة، ليتني ارتديت شيئا مثيرًا!.
أعتقد أن الوقت قد فات وربما أنني حاولت تغيير واقع لم يكتب التغيير بعد، لم يبقى في كأس البيرة إلا القليل، قررت أن تخرج من هذا المكان، لا لتجرب حظها في مكان آخر، وإنما لتعود إلى شبح كريستينا الحزين الذي ينتظرها بالمنزل.. خطواتها كانت ثقيلة جدًا وهي تتجه إلى حيث تدفع ثمن البيرة، أخرجت من محفظة أنيقة بعض العملات وهمت بدفعها، ولكن شيئًا لم يكن يخطر ببالها قد لاح في أفقها، قال لها شخص مهذب يقف خلف المكان المخصص لتجهيز المشروبات ودفع الخساب، أنت جارتنا ونحن لا نأخذ من جيراننا مقابل في المرة الأولي لزيارتنا، وخصوصًا جارتنا الجميلة الخجولة كريستينا.
عاد شبحها إليها ثانية وإحمر لونها، ورغم تداخل الأنوار الخافتة داخل البار لاحظ الجار ما آلت إليه أحوال جارته، فطلب منها أن يتحدث إليها قليلًا في الخارج عن بعض الأمور الخاصة بالبناية، انطلت الحجج عن كريستينا التي كان الصمت هو لغتها، وهزت رأسها من أعلى إلى أسفل مبدية موافقتها.
خرج الاثنان من صخب الموسيقي إلى الشارع، أحست كريستينا ببعض الراحة، وأخذ الشاب يتحدث في أمور كثيرة لم تفهم منها كريستينا شيئًا، ولكنها استغلتها لتهدئة مشاعرها المتبعثرة، وما أن تمالكت نفسها، نظرت إلى جارها المزعوم وقالت له هل تسكن معي حقًا؟ ابتسم الشاب ابتسامة رقيقة، وقال أنا أسكن معك منذ ثلاثة أعوام أي بعدك بعام تقريبًا، وأعمل بهذا البار منذ سكنت هنا، وأراك خمس مرات أسبوعيًا وأنت ذاهبة إلى المنزل بعد انتهاء يومك.
أعرف أنك لا تحادثين أيًا من جيرانك وغالبًا لا تعرفيهم أصلًا، كم من مرات كثيرة رغبت في التحدث إليك ولكني كنت أحترم خصوصايتك، أعرف أنك خجولة جدًا من مشيتك، فأنت دائما تنظرين في الأرض وكأنك تبحثين عن شئ ضائع، ولكني لا أتذكر أنني رأيتك من قبل، وهل كنت ترين أحدًا من قبل؟.
رد عليها بهذا الرد المقتضب، أحست كريستينا وكأن المولود الذي خرج من مشيمته يريد أن يقول شيئًا، فقاطعت جارها قائلة: ولماذا قررت الآن أن تفعل ما لم تقدر عليه من قبل؟ كانت كلمات الجار جاهزة، وكأنه هو من أعد هذا السيناريو غير المتوقع سلفًا.. قال لها وهو يقترب منها في ثقة، أنت من فعلت ما لم تستطيعي فعله من قبل، أزعجتها وراقتها ثقة جارها، وقالت له وما هو هذا الشئ من وجهة نظرك، قال لها جئت تبحثين عني.. قال لها في حب أنا "مايك"، قالت له في رقة وأنا "كريستينا".